أوانُ الرحمةِ والتراحم

ونحن نمرُّ بهذه المحنة المسمّاة “كورونا” والتي لا يبدو أنها ستنتهي قريباً (ولا أقول ذلك من باب التشاؤم، بل من باب التعاطي مع الأمور بواقعية) علينا -ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً- أخذ الاحتياطات الكفيلة برفعها أو التقليل من أضرارها الماديّة والمعنويّة، لكي نكون، دائماً، على أهبة الاستعداد  لكلّ الاحتمالات، ولكي ينظر الله الرحمن الرحيم إلينا بعين اللطف والرحمة. ولذلك يجدر بنا أن نستخلص من كتاب الله (كتاب الشفاء والرحمة) بعضَ التوجيهات الإلهية للمرحلة القائمة والقادمة.

      فما هو منهج الإسلام في التعاطي بين أفراد المجتمع في البلايا والأزمات والضائقة الاقتصادية؟

قد نستخلص عصارة هذا المنهج من خلال هذه الآيات الكريمات من قوله سبحانه وتعالى في سورة “البلد”:

   (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) (البلد 11 – 18).

  (فلا اقتحم العقبة): ما هي هذه العقبة التي تقف حائلاً بين الإنسان وبين دخوله الجنة، والتي يحثَّنا البيان الإلهي هنا على اجتيازها واقتحامها، لنضمن أن نكون في عداد أصحاب الميمنة وأصحاب الإيمان وأصحاب الجنة؟

   تأمَّلوا معي في مجموعة هذه الأفعال الإنسانية الرائعة التي هي من المصاديق البارزة لاجتياز هذه العقبة، والتي يعكس القيام بها روحَ الإيمان الحقيقي، وشعوراً سامياً بمعاناة المقهورين والمعوزين والمعذّبين في الأرض.

أولاً، فكُّ رقبة:

       أي المساهمة المالية في إنقاذ إنسان وانتشاله من ذلّ العبودية والقهر، وإطلاق سراحه لكي يعيش حراً سيداً عزيزاً كريماً. وهذا العمل هو أكثر من فعل خير يقوم به المؤمن على صعيد المساهمة في فك قيود فرد، فلقد كانت الدعوة على زمن رسول الله (ص) إلى تعاون ثوري شامل باستخدام هذه الأداة لتحرير الإنسان من عبودية أخيه الإنسان، مع توجيهٍ دينيّ رحيمٍ للوقوف مع حقوق المظلومين والمقهورين والمستضعفين في العالم سعياً لتجفيف منابع العبودية بشكل كامل. لكنّ معناها لا ينحصر في ذلك فقط.

        جاء أعرابي إلى النبي -عليه وآله الصلاة والسلام- فقال: “علّمني عملاً يُدخلني الجنة”. قال (ص): “لئن كنت أقصرتَ الخطبة لقد أعرضتَ المسألة، أعتق النسمة، وفكَّ الرقبة”. قال الأعرابي: “أو ليسا واحداً (أوليسَ هذان العملان عملاً واحداً؟)، قال (ص): “لا، عِتق النسمة أن تنفرد بعتقها. وفك الرقبة أن تعين في ثمنها”، ثم قال (ص): “والفيء (الإحسان والصدقة) على ذي الرحم الظالم، فإن لم تطق ذلك، فأطعم الجائع، واسقِ الظمآن، وأمُرْ بالمعروف، وانهَ عن المنكر، فإن لم تطق ذلك، فكفّ لسانك إلا من خير“.

    هذه الخيارات التي يضعها النبي (ص) بين يدَي السائل تعني أن التعاون في الأزمات ممكن حتى بأبسط الأشياء، إن لم نتمكن من أرفعها وأعلاها، وأن أشكاله متعدّدة لا تقتصر على نوع واحد من الدعم والمساندة.

ثانياً، إطعام في يوم ذي مسغبة:

   بذل الطعام في زمن الضائقة الاقتصادية والمجاعة، حين يخبّئ الناس أموالهم ويخزنون أطعمتهم خوفاً من النفاد والشحّة، ويصبح الطمع والأنانية الفردية سيدَي الموقف، إذْ ذاك تُبلى السرائر، ويُعرف مدى إيمان المؤمن ورغبته في الآخرة. وهذا معنى قوله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران/92) أي: لن تدركوا وتبلغوا البر، الذي هو كلّ خير من أنواع الطاعات والصالحات والحسنات الموصل صاحبه إلى الجنة، حتى تنفقوا مما تحبّون، أي: من أموالكم النفيسة التي تحبها نفوسكم، أو  في حال حاجة المنفق مثلاً إلى ما أنفقه (وذلك هو معنى الإيثار)، فإنكم إذا قدّمتم محبَّة الله على محبَّة الأموال فبذلتموها في مرضاته وفي أعمال الخير، والصدقات، دلّ ذلك على إيمانكم الصادق، وبرّ قلوبكم، ويقين تقواكم.

      أخرج عبد بن حميد عن رجلٍ من بني سليم أنه اتفق يوماً مع أبي ذر الغفاري (رض) ليعمل عنده بالرعي. واشترط عليه أبو ذر أن يطيعه في كلّ ما يأمره، فأمره يوماً أن يحضر جملاً لينحره وليتصدَّق بلحمه، فأحضر الراعي جملاً ضعيفاً، فلما اطلع أبو ذرّ على ما فعل الراعي، عاتبه في ذلك عتاباً شديداً. فقال الراعي معتذراً: إنما احتفظت بالجمل القوي ليوم حاجة. فقال له أبو ذر: ألا أخبرك بيوم حاجتي؟ إن يوم حاجتي يوم أُوضع في حفرتي، فذلك يوم حاجتي!

       ثم قال أبو ذر للراعي: إن في المال ثلاثة شركاء: (القَدَر)، لا ينتظر أن يذهب بخيرها أو شرها، و(الوارث)، ينتظر متى تضع رأسك ثم يستفيئها (ينشغل  بحصته من الإرث والتركة) وأنت ذميم (لأنك لم تنفقها في حياتك). و(أنت الثالث). فإن استطعت أن لا تكونن أعجز الثلاثة فلا تكونن، مع أن الله يقول: (لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبّون)، وان هذا المال مما أحبّ من مالي فأحببت أن أقدّمه لنفسي!

ثالثاً، يتيماً ذا مقربة، أو مسكيناً ذا متربة:

    يتيماً ذا قربى (أي من أقاربنا وأرحامنا)، أو فقيراً قد لصق بالتراب لشدَّة فقره، أي حين يُفتقَد الداعم والمعيل والمعين في الضائقة، ولا يبقى للقريب الذي انعدمت حيلته وضاقت معيشته وفقد معيله، إلا قريب له ليتذكَّره وينظر في أحواله ويكون في عونه. فهل ينظر المؤمن في أحوال المعوزين والمعسرين حوله، ويقتحم العقبة خارجاً من قوقعة حب الذات، ناظراً في أحوال أقربائه وأرحامه؟

     إن هذه الأمور التي ذكرتها الآيات من “سورة البلد” هي من المصاديق البارزة لاجتياز العقبة، وهي في الحقيقة تدلُّ على سجية هي من أبرز وأسمى السجايا التي يدعو الإسلام إلى التحلّي بها، وهي سجية (الرحمة والتراحم)، فهل يكفي الإنسان المؤمن أن يكون من ذوي أعمال البرّ والإحسان ليكون في أصحاب الميمنة؟ كلا، بل لا بدَّ من توفر هذه الخصلة الحميدة التي تجعل المؤمن يحمل -دوماً- الخير والبركة لنفسه ولأهله ولمجتمعه ولآخرته.

قيمة (الرحمة) و(التراحم):

————–

    بعد ذلك تُكمل الآية الكريمة وصفتَها العلاجيّة:

   (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ).

   بمعنى أن تتوفر لديه -إضافةً إلى اعتقاده الإيماني الكبير- خصلتا الصبر والرحمة. وهاتان الخصلتان هما وصية الله للمؤمنين ووصية المؤمن لأخيه المؤمن يحضُّه فيها على خصلتين متلازمتين (الصبر) و(الرحمة)، فالصبر الذي هو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، يعني هنا الصبر على البذل والانفاق وعدم إطاعة الشيطان الذي يخوّف عادةً من الفقر.

     أما ما هو خُلق الرحمة؟

    فهو خلقٌ ينبعث من طينة المؤمن الطيّبة، ومعدنه الثمين، ومن شعوره وإحساسه بما يقاسيه الآخرون من هموم وفقر وآلام وأحزان، فيحمله ذلك على الوقوف إلى جانبهم وإسداء العون والمعروف إليهم، فهو ليس تعاطفاً وتألماً على حالهم فحسب، وإنما هو فعل ومشاركة حقيقية في تغيير واقع وحالة من يحتاج إلى مساعدة. ويُعتبر هذا الخلق الرفيع والرائع شاهداً أساسياً على إيمان المؤمن ومعيناً له على اقتحام العقبة ونيله شرف الانتماء إلى أصحاب الميمنة.

التواصي بالمرحمة:

———-

     أمَّا (التواصي بالمرحمة): فهو المعنى المراد بـ(التراحم) أي أن يرحم بعضُنا بعضاً، وهو من أفعال (المبادلة) و(المفاعلة) أي التآزر والتعاطف والتعاون، وهي دعوة بعضنا بعضاً الى الرحمة،  والمؤمنون يتواصون في ما بينهم، بكلّ ما هو خير وفيه صلاح للجميع، بحيث يُذكّرون بعضهم بعضاً بضرورة الرحمة. ومن أروع تلك التذكيرات الإنسانيّة قول بعضنا لبعض بما رُوي  عن النبي (ص): “إرحمْ مَنْ في الأرض، يرحمك من في السماء”! وفي حياة كل منا عشرات المواقف والظروف الإنسانية التي تحتاج أحيانا الى التواصي بالمرحمة، خاصة في التعامل مع المرضى والمقعدين الذين لا يتمكّنون من القيام بأعمالهم اليومية في الظروف الاعتيادية، ناهيك عن ظروف العزل ومنع التجوّل.

    وأفضل أنواع التراحم على الإطلاق (التفقُّد)، أي استشعار حاجة الآخرين الى العون والمساعدة، والمبادرة لتلبيتها سواء كانت أغذية أم أدوية أم حاجات عامّة، من غير أن نُشعِرَ المسنين أو المرضى أو المقعدين بالحرج وبضرورة الطلب بأنفسهم، حيث يمكن التواصل معهم عبر الجوّالات أو الهواتف النقّالة، ويمكن -في هذه الحال- أن نراعيَ التعليمات الصحيّة، بعدم التماس المباشر، بأن نضع ما يحتاجونه على أبوابهم. وقد ورد في الحديث: “اللهُ في عون العبد ما كان العبدُ عوناً لأخيه”!

    وفي الحديث أيضاً أنَّ الرسول الأعظم (ص) قال لأصحابه: “لن تؤمنوا حتى تَرحموا”. قالوا: يا رسول الله كلُّنا رحيم. قال (ص): “إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكنها رحمة عامَّة”.

   بمعنى أنَّ الإيمان الحقيقي ينعكس رحمةً في قلب المؤمن، وأن رحمةً كهذه لا تقتصر على القريب ولا على المؤمنين فحسب، بل يجب أن تعمَّ الناس جميعاً.

     ومن مظاهر الرحمة ما يتعلّق برحمة الوالدين، وعلاقة الإنسان بأهله وأرحامه وأصدقائه، وصولاً إلى علاقته بمجتمعه المحيط به، وإلى معاملته سائر خلق الله من إنسان أو حيوان أو بيئة… ذلك كلّه مبنيّ على هذا الخلق؛ خلق الرحمة، فالمؤمن يحمل في قلبه ينبوعاً من الرحمة ينبغي أن يفيض على الناس جميعاً وعلى الكائنات برمّتها.

 هذ أوان اقتحام العقبة:

————–

         وإننا إذْ نمرُّ اليوم بهذه الأزمة العالمية، التي تجمعنا على إحساس إنسانيّ موحّد ومشتَرك، فقد حان أوان اقتحام العقبة، حان أوان تجاوز عقبة شحّ الأنفس والطمع والأنانية للوقوف مع أخوتنا في الدين والإنسانية، حان أوان أن نشعر بمشاعر الآخرين من حولنا وفي مجتمعنا. يقول سبحانه: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر/9).

     حان أوان أن تُحسن كما أحسن الله إليك. حان أوان تفعيل: (والذين في أموالهم حقٌّ معلوم للسائل والمحروم) (الذاريات/ 19).

     حان أوان أن نحصّن أنفسنا وصحّتنا وأولادنا وأرزاقنا بالصدقة والعطاء، ومساعدة الأقارب والفقراء والمحتاجين والأيتام والأرامل، والمرضى، والمسنين، والمقعدين، فالصدقة عنوان الصدق مع الله. وهي تقي الإنسان وتدفع عنه السوء.

    عن الإمام الصادق (ع): “الصدقة باليد تقي ميتةَ السوء وتدفع سبعين نوعاً من أنواع البلاء وتفكُّ عن صاحبها سبعين شيطاناً كلهم يأمره أن لايفعل”.

   وحان أوان أن نعمل لآخرتنا أيضاً، ففي الحديث عن النبي (ص): “من نفّس عن أخيه المؤمن كربةً من كُرَب الدنيا، نفّس اللهُ عنه سبعين كربةً من كرب الآخرة”.

       وعن الإمام الصادق (ع): “إذا بعث الله المؤمن من قبره خرج معه مثال يقدم أمامه، كلما رأى المؤمن هولاً من أهوال يوم القيامة قال له المثال: لا تفزع ولا تحزن! فيقول له المؤمن: من أنت؟ فيقول: أنا السرور الذي كنت أدخلت على أخيك المؤمن”.

وعنه عليه السلام: “أيما مؤمن نفس عن مؤمن كربةً وهو معسرٌ يسَّرَ الله له حوائجه في الدنيا والآخرة”. وهذا ما يمكن أن نصطلح عليه بـ”دورة الرحمة”، أي أن الراحم يستحق الرحمة ليس في الآخرة فقط، بل يبعث  له الله تعالى من يرحمه في الدنيا أيضاً، فما تعطيه بيد تأخذه باليد الأخرى، وإذا رحمت اليوم فسوف يبعث الله لك غداً من يرحمك.

  حان كذلك -أيّها الأحبّة- أوان أن نُزكّيَ أنفسَنا لتحلَّ فيها السكينة والطمأنينة في محنة كونيّة تضغط على أعصابنا جميعاً… والله يرشدنا الى دواء وعلاج روحي فعَّال حين يخاطب رسوله الكريم (ص):

(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (التوبة/103).

   حان أوان أن نرحم آباءَنا وأمهاتنا، صغارنا وكبارنا، أقاربنا وجيراننا، أولادنا وإخواننا، عمّالنا ومستخدمينا، فقراءَنا وأيتامنا، مرضانا وأصحّاءَنا، ليرحمنا الله برحمته التي وسعت كلّ شيء، فرحمة الله لا تُنال إلا برحمة الناس كما رُوي عن الرسول (ص): “من لا يَرحم لا يُرحَم”.

 طرق التراحم شتّى:

———–

       هناك من إخوتنا وأحبَّتنا من فقدَ عمله في هذه المحنة، وهناك من قد يفقده بعد قليل إذا ما امتدَّت هذه المحنة وطالت لا سمح الله، وعلى ما يبدو فنحن ذاهبون إلى ذلك. والكثير من الأهل والأقارب والأصدقاء والمعارف لن يكون لديهم – بعد أن تنفد مدَّخراتهم – ما يكفي لسدّ رمق عوائلهم، ويحتاجون إلى تفقُّد أحوالهم والوقوف معهم في الظروف الصعبة.

    وهناك أقارب لنا أيضاً في أوطاننا الأصلية، أو في دول العالم الفقيرة، وهؤلاء حبيسو بيوتهم، وقد خسروا أعمالهم، وربما هم يعيشون في دولٍ لا تؤمّن لمواطنيها العون والدعم في الأزمات، في دول دُمّر اقتصادها نتيجةً لنهب وحصار القوى العظمى والبلاد الغنية، ودول أُنهك اقتصادها وضاقت سبل العيش فيها نتيجةً لجور الحكام وفسادهم، وهؤلاء يحتاجون الى مدّ يد العون لهم، باقتحام العقبة وبذل الجهد في البحث عنهم وايصال المساعدة لهم. على أن هذا لا يعني أن نفكّر بالبعيد وننسى القريب، فالأقربون أولى بالمعروف، ولكن أفق المساعدات الإنسانية ليس له حدود ولا سقوف، ومن لم يكن أخاً لنا في الدين فهو أخٌ لنا في الانسانية!

    وقد نكون من أصحاب الأعمال وهناك من يعملون في خدمة مشاريعنا أو محلاّتنا، فلا بدَّ لنا أيضاً أن نشعر بالرحمة تجاه هؤلاء العمَّال الذين يعملون لدينا، الرحمة بهم وبعوائلهم، فأحوج الناس إلى رحمتك الآن من قلّدك الله أمره من العمّال والموظفين والمستخدمين، فلا بدَّ أن تُيسر عليهم وتُحسن إليهم وتجبر خواطرهم، ولقد أوصتنا السيرة المطهّرة بأن لا ننسى أو نضيّع من نعول!

    إنّ بعض أصحاب الأعمال والأسواق والمحال التجارية قد يغلق محلَّه أو مصنعه خوفاً من هذا المرض، أو تنفيذاً للأمر بالإغلاق، ولكنه قد يمتلك مالاً وفيراً فلا ينبغي له وهو يلازم بيته أن يحجر على ماله وينسى عمَّاله، فأكثر هؤلاء العمَّال في الجالية من أصحاب الدخل المحدود الذين قد لا يكفيهم الراتب من شهر إلى آخر، والكثير منهم قد انعدمت حيلته جراء هذه الأزمة، وصاحب العمل إذا كان يملك مالاً وفيراً يتحمَّل المسؤولية الأخلاقية والمعنوية تجاههم، ويجدر به تشجيعهم ومنحهم ما يستحقّونه من أجور، والسؤال عن أحوالهم ومساعدتهم إذا طال أمد الإغلاق، أي لا ينبغي أن ننسى في وقت (المِحنة) من وقف معنا أيام (المِنحة) والسعة والسلامة، وقدّم لنا خدماته وحقَّق لنا ما نرجو من نجاح وأرباح.

    يقول سبحانه: (آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (الحديد/ 7).

    ويقول عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج 24 – 25).

        وقد وردَ عن الإمام جعفر الصادق (ع) في تفسير هذه الآية الكريمة: “فرض الله عزَّ وجلَّ في أموال الأغنياء حقوقاً غير الزكاة، فقال عز وجل: والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم”.

     فالحقّ المعلوم كما تشير هذه الرواية غير الزكاة، وهو شيءٌ يفرضه الرجل على نفسه ويعطيه الفقراء.

    ووردَ عن أمير المؤمنين (ع) قوله: “إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما متع به غني، والله تعالى سائلهم عن ذلك”.

    والمراد بالفقير الشرعيّ من لا يملك مؤونة سنته اللائقة بحاله لنفسه وعائلته، أما المسكين فهو الذي لا يملك حتى قوته اليومي.

    جاء عن الإمام الصَّادق (ع) قوله: “من صالِح الأعمال البرُّ بالإخوان، والسَّعي في حوائجهم ففي ذلك مرغمة للشيطان، وتزحزح عن النيران، ودخول الجنان، أخبر بهذا غُرر أصحابك… هم البررة بالإخوان في العُسر واليُسر”.

وإن ننسى لا ننسى كبار السنّ الذين هم الآباء والأمَّهات والأجداد والجدَّات الذين لهم علينا من الأفضال ما لا يمكن عدُّه أو إحصاؤه. فلا بدَّ من أن تكون الأولوية لمساعدتهم في قضاء أمورهم وتسيير حياتهم اليومية، خصوصاً أنهم الفئة التي حازت النصيب الأكبر من الخوف من هذا المرض.

تحية من الأعماق لعمّال الله!!

—————–

      وهناك من أهلنا من يحتاج إلى الدعاء له بالرحمة، خصوصاً هؤلاء الجنود المجهولين الذين يقفون اليوم على جبهات مواجهة هذا الوباء ومعالجة ضحاياه، والمقصود كلّ العاملين والعاملات في القطاع الصحي، من أطبّاء وممرّضات وفنّيين وعمَّال… فهم اليوم مشاريع شهداء حيث إنهم يخاطرون بحياتهم من أجل إنقاذ حيوات الآخرين. هم طليعة المجتمع وجنوده الشجعان في هذه الأيام العصيبة، فالمستشفيات ملأى بالمصابين وأهل العاملين في القطاع الصحي يعيشون في قلق كبير من انتقال العدوى لأبنائهم.

    لذلك لا يجب أن نبخل عليهم بالدعاء… إنهم جيشنا الذي سلاحه ليس البندقية القاتلة، بل الحقنة الشافية.

    فلهم كلُّ التحيَّة وأصدق الدعاء بالرحمة. إنّهم  -وسائر من يقدّم العون اللازم في هذه المحنة- من عمّال الله وجنوده! إنهم بحقّ مفخرة الجالية! ولا يُنال ذلك الفضل إلا بالتقوى التي هي خير الزاد.

      وختاماً، ليس هناك ما هو أفضل من اختتام كلمتنا بمقولة الإمام الصَّادق (ع): “تواصلوا وتبارّوا وتراحموا وتعاطفوا“.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

 

Contact Us

We're not around right now. But you can send us an email and we'll get back to you, asap.

Not readable? Change text. captcha txt

Start typing and press Enter to search