الإمام المغيَّب: الذكرى والفكرة

من نافل القول إن المناسبات ليست كلها سواء، فبعضها للذكرى والتذكُّر، وبعضها للعبرة والاعتبار، لكنَّ بعضها الأهمّ يحمل فكرةً تكون ذكراها مناسبةً لتطويرها وترسيخ صوابيتها والعمل على الأخذ بها.

ومن هذه المناسبات الأصيلة ذكرى تغييب الإمام السيد موسى الصدر، التي هي مناسبة لتجديد الفكرة العظيمة التي عمل عليها هذا الإمام العظيم.

فالحديث عن السيّد الصدر ليس حديثاً عن التاريخ فحسب، أو عن الحاضر فحسب، بل حديث عن المستقبل أيضاً. فالإمام هو مدرسة في الجهاد والعمل والعلم والفكر نأخذ بتعاليمها.

واليوم أَوْلى بنا في ذكرى التغييب، أن نتكلَّم عن هذه المدرسة لكي نستلهم منها الفكرة التي بذرَ بذرتها الإمام ويُنتظَر منَّا –نحنُ الخَلَف- أن نقوم بسقيها ورعايتها.

الانطلاق من أرض الواقع

بدايةً، إذا سُمِح لي بالعودة إلى كتاب “المراجعات” لعظيم الفقه العلَّامة الكبير سماحة السيّد عبد الحسين شرف الدين، فسأقول إن هذا الكتاب الشهير هو عبارة عن مجموعة حوارات علمية مكتوبة جرت بين عالـمَيْن جليلَيْن يمثّلان شطرَيْ أُمَّة محمد (ص): السنَّة والشيعة. الأول هو العالم الجليل الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر في مصر، والثاني هو سماحة العالم والمحدّث الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين. وقد كان الهدف من هذا الحوارات العلمية الوصول، بنزاهة وموضوعية، إلى حقيقة الإمامة والخلافة بعد رسول الله (ص). واستطاع سماحة السيّد من خلال هذه المناظرات أن يقنع الشيخ سليم بوجهة النظر الشيعية معتمداً في ذلك على الروايات والأحاديث التي جاءت في كتب المذهب السنّي. وقد لاقى هذا الكتاب نجاحاً باهراً وتمَّ اعتمادُه، إلا أن سماحة السيّد شرف الدين، الذي كان يقيم في جنوب لبنان آنذاك في ظلّ حالة الحرمان والتخلُّف التي كان يعيشها أهل الجنوب، فكَّر بينه وبين نفسه: كيف نستطيع القول إنَّ المذهب الشيعي هو المذهب الحق، والناس قد تنظر إلى معتنقي هذا المذهب وإلى أحوالهم فتقول: إذا كان مذهبكم هو المذهب الحقّ فلمَ أنتم على هذه الحال؟ ثمَّ ما هذا المذهب الذي لا يصلح لقيادة الحياة؟!

وهنا استشرف السيّد عبد الحسين شرف الدين المستقبلَ، وقرَّر وضع التأليف جانباً، آخذاً بالتفكير كيف يستطيع أن يُغيّر واقع الشيعة في جنوب لبنان؟ فقرَّر أنه لا يمكن فعل ذلك دون إنشاء المؤسسات التعليمية والتربوية. فأنشأ أول مدرسة للطائفة الشيعية في الجنوب، في الوقت الذي كان التعليم مقتصراً على تعليم القرآن الكريم وحفظه في المساجد.

في تلك الفترة كان السيّد موسى الصدر، وهو قريب آل شرف الدين في لبنان، يدرس في إيران وقد عمل على تأسيس مدرسة خاصَّة تحمل على عاتقها تعليم وتربية جيل إسلامي متنوّر في مقابل المدارس الحكومية التي كانت تبث الأفكار المنسلخة عن الهوية الإسلامية. أي أن السيّد موسى كان في إيران ما قبل الثورة ضمن طليعة التيَّار الشيعي الحركي؛ تيار النهضة والتغيير في قم المقدّسة إلى جوار علماء طليعيين آخرين أمثال السيّد بهشتي، والشهيد مرتضى المطهري، والدكتور علي شريعتي، والسيد محمد باقر الصدر الذي كان قريباً لسماحة الإمام المغيَّب.

كان هذا التيار يتحرك سياسياً واجتماعياً وفكرياً في إيران، وقد ساهم السيّد الصدر ضمن هذا التيار في إيران بتأسيس مجلة “مكتب إسلام” (أي: مدرسة الإسلام). ومع مجيء الإمام الخميني تبنَّى هذا التيار التحرُّك في الشأن السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي للناس.

كان المذهب الإسلامي الشيعي في إيران والعراق، في تلك الفترة، يقف على مفترق طرق يتجاذبه تيَّاران أولهما التيّار الحركي المذكور الذي يتصدَّى للشأن العام ويتحرك على صعيد تطوير حياة الأُمَّة سياسياً ومادياً وروحياً وثقافياً،  وينفتح على التيَّارات السياسية والمذاهب الإسلامية الأخرى ويُراعي حساسياتها ويعمل على التقريب بين مذاهب المسلمين عامَّة في سبيل النهوض بالأُمَّة الإسلامية عامَّة والدفاع عن حقوقها المهضومة، ويعترف بالإنسان الآخر  كنظير في الخلق  وينفتح عليه ويدعو إلى الحوار والتقارب الإنساني… وثانيهما تيَّار شيعي تقليدي سكوني منعزل في النصوص والطقوس والمجالس ومنقطع عن وقائع الحياة ويحمل ردود فعل عالقة من ترسُّبات الماضي زمن اضطهاد الشيعة في العالم الإسلامي، وهو تيّار يرفض الانفتاح على الواقع والعضّ على الجراح التاريخية والحالية كما أنه يغفل في أحيان كثيرة الدور الكبير الذي بدأت الطائفة الإسلامية الشيعية بلعبه على صعيد العالم الإسلامي والعالم ككلّ.

وهكذا فقد كان ثمَّة صلةٌ بين فكر النهوض بالأُمَّة والشابّ موسى الصدر. لذلك، وبعد وفاة السيّد عبد الحسين شرف الدين، طُلِبَ من السيّد موسى أن يأتيَ إلى لبنان ليقوم مقام السيّد شرف الدين في صُور، وكان الإمام في بداية عقده الثالث، وكان ذا كفاءة عالية، حتى قال عنه السيّد جعفر شرف الدين لجمهور الشعب اللبناني: لقد رحل عنكم السيّد عبد الحسين شرف الدين وهو يحمل على أكتافه 87 عاماً وعاد إليكم الآن وهو في الـ31 من العمر.

النهوض بالدور العلمائي

هكذا قرَّر السيّد موسى الصدر أن يستقرَّ في لبنان بعدما وجده الساحة المناسبة للعمل آنذاك.

في البداية وُوجِهَ السيّد الصدر، في صُور والجنوب عموماً، بالرفض من قبل التيَّار المناوئ، إلى أن أجبره إخلاص السيّد ووضوح رؤيته السياسية واستجابته للعصر على التعاون معه. وخصوصاً حين بدأ يتحرك من أجل حقوق المحرومين، مما جعل جمهور المحرومين الواسع جداً يتفاعل معه، ويرى فيه القائد الذي يوجّههم ويطالب بحقوقهم المشروعة وينادي بإخراج الجنوب والبقاع من حالة الفقر والحرمان والإهمال. لذلك احتشد الناس حول الإمام لينطلق في مسيرته القيادية الجماهيرية، فاشتغل في كلّ المفاصل والقضايا التي تخدم الإنسان ودوره ووجوده في الحياة.

في بداية تحرُّكه، عمل الإمام الصدر كعالم ديني في مدينة صُور، لكنه سرعان ما رأى بأنَّ من واجبه النهوض بالدور العلمائي، لذلك قال مقولته الشهيرة: “إني أريد أن أزيل غبار التاريخ عن العمامة الشيعية”. وهكذا تحرك في المجتمع كنموذج وقدوة للعلماء العاملين الحركيين في لبنان. وأخذ ينشط في مختلف الجوانب الحياتية والسياسية والاقتصادية والعملية الاجتماعية، ناشراً الوعي الثقافي في صفوف الناس عبر خطاباته المؤسَّسة على الوعي الحياتي.

وكان يرى في دوره هذا سدَّاً للفجوة التي خلَّفها انشغال العلماء بالأمور الفقهية والتاريخية. وهكذا أحدث صدمة وعي على مستوى البنية الفكرية والعملية لعلماء الدين الشيعة. فاستطاع أن يرسم دوراً جديداً وحركياً لهم، بحيث أخرجهم من ممارسة الشعائر والطقوس إلى قيادة الإصلاح والتغيير في الواقع والمجتمع والحياة.

إزالة الحواجز بين الطوائف

ومن خلال دوره العلمائي المميّز، كسر الإمام الصدر الحواجز وانفتح على الجهات المختلفة دينياً ومذهبياً وسياسياً، وبدأ يتواصل مع رجال الدين ورؤساء الطوائف اللبنانية الأخرى، فكان أول عالم دين في لبنان يدخل إلى كنيسة (الكبوشيين) ويلقي محاضرةً فيها.

لقد سعى السيّد إلى الانفتاح وإقامة علاقات الحوار مع الجهات السياسية والمذهبية المسيحية والإسلامية في لبنان، داعياً إلى رسالة السلام، معمّماً أبجدية التعايش والحوار بين طوائف الوطن.

وقد جُوبِهَ هذا التحرك بجملةٍ من ردود الأفعال من قبل بعض علماء الدين ضدَّه، لكنَّ النتيجة المهمَّة لهذا التحرك كانت أكبر بكثير لأنه سمح بكسر القيود بين الطوائف اللبنانية وبإزالة الحواجز الوهمية المانعة للتواصل الإنساني بين مختلف أبناء الديانات في الوطن الواحد.

ونحن إلى اليوم نفتخر بأن  هذه التحركات، المستندة إلى الفلسفة الإسلامية الناهلة من مدرسة أهل البيت، هي التي حافظت على العيش المشترك في مناطق تواجد أبناء الطائفة الشيعية خلال الحرب الأهلية في لبنان، وهي التي حمت أبناء الطائفة المسيحية فلم يُهجَّر مسيحيٌّ واحدٌ من الجنوب والبقاع، لأن هذا الإسلام المحمَّدي الأصيل؛ هذا الإسلام العلوي الحسيني يرفض المسّ بالإنسان لمجرَّد اختلافه معك بالدين والطائفة والعقيدة واللون والوطن. ولأنَّ هذا الدين الحنيف يعلّمنا بأنَّ الآخر إمَّا أخٌ لك في الدين وإمَّا نظيرٌ لك في الخَلْق.

المناداة بتغيير النظام الطائفي

في ما يتعلَّق بالطائفة الشيعية، وبعدما كان هذا المجتمع يتعرَّض لأسوأ الظلامات على يد النظام الطائفي، تحرك الإمام في مواجهة فئوية النظام، منادياً بحقوق الطائفة الشيعية، مؤسّساً “المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى” و”حركة أمل”.

نادى الإمام الصدر بضرورة تغيير النظام الطائفي في لبنان نحو نظام الدولة المدنية التي تحترم حقوق جميع مواطنيها والتي تحقق المشاركة السياسية للمواطن وتفرض على ممثلي الشعب المنتخبين ديمقراطياً العمل في خدمة المواطن والشعب. ولذلك أيضاً كان الإمام الصدر مؤسّساً لمشروع المقاومة ضد إسرائيل، مشدّداً على شعار “السلاح زينة الرجال”، معلناً أن شرف القدس يأبى أن يتحرَّر إلا على أيدي المؤمنين الطيّبين الشرفاء.

وهكذا نجح الإمام الصدر بالدمج بين مشروع الدولة المدنية ومشروع المقاومة، باعتبارهما مشروعاً واحداً يؤسس لدولة حديثة وقوية وعادلة لجميع أبنائها. وهذه هي الفكرة التي بذر بذرتها الإمام الصدر والتي لم ولن يستطيع مغيّبوه تغييبها معه!

Contact Us

We're not around right now. But you can send us an email and we'll get back to you, asap.

Not readable? Change text. captcha txt

Start typing and press Enter to search