حديث الآخرة بين (الذاكرين) و(الغافلين)

يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).(الاسراء/9).

 الإيمان ب (اليوم الآخر):

————–

 ثاني أهم أصل من أصول الدين هو (الإيمان باليوم الاخر)إذ كثيرا ما يقرن في القرآن بأصل أو مبدأ (التوحيد) ، وكأن الإيمان بالله من غير الإيمان بالمعاد ، إيمان ناقص، لايقوم ولايستقيم، ذلك أن الإيمان بالآخرة ضابط مهم من ضوابط حركة الانسان في الحياة.

 من هنا يدعو القرآن الكريم إلى الإيمان بالآخرة، مبشّراً المؤمنين بأنَّ لهم أجراً كبيراً، و تضع العديد من الآيات القرآنية المجيدة حداً فاصلاً بين صفات أهل الإيمان الواعين لمصيرهم وصفات أهل الغفلة الذاهلين عن مآلهم.

فثمَّة صفةٌ أساسيةٌ من صفات أهل الإيمان العارفين والذاكرين لما يُراد بهم، ألا وهي ذكر الآخرة بل تفاصيلها ، وهي الصفة ذاتها التي يفتقدها أهلُ الدنيا والغفلة الغارقين في لعبهم ولهوهم.

 حقيقة الأخرة:

———-

ويمكننا الدخول إلى معالجة هذه المسألة من خلال أعظم البوَّابات، عبر استعراض بعض المعاني القرآنية، حيث يقول سبحانه وتعالى:

(وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا).(الاسراء/19)

والمقصود بمريد الأخرة هو من وضعَ الآخرةَ نصبَ عينَيْه، جاعلاً منها هدفاً حقيقياً لحياته، ساعياً لطلبها، متزوّداً لها، وحاسباً لها من الحسابِ ألفاً.

ولكن لا يجب أن يغيب عن بالنا أنَّ هذه العناية بالآخرة لا تعني تقصير السعي في الدنيا وتحريم طيباتها و زينتها! فأهل الإيمان يتنعَّمون بنِعَمِها، ويأكلون من طيّباتها وخيراتها، ويتزيّنون بزينتها، وهذا لا يتنافى، البتَّة، مع رغبتهم في الآخرة. فالله سبحانه يقول:

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).((الأعراف/32)

يأتي رجل للامام الصادق(ع) فيسأله : قال له أنا احب حمع المال في الدنيا. قال له : ماتصنع فيه؟ قال: أتزوج واشتري بيتا وأنفق على نفسي وعيالي ! فقال له : هذا من الآخرة !

فالله عزَّ وجلَّ لم يحرّم متع الدنيا على المؤمنين! والحقيقة أننا لا نعرف مصدر هذه “الخبريات”أو الأمور الدخيلة التي ما أنزل الله بها من سلطان، التي تحرّم ما حلَّله لله! إنها مبادئ  غير صحيحة وغير إسلامية. فأهلُ الإيمان يشاركون أهلَ الدنيا في دنياهم، ولكنهم – ولله الحمد- لا يشاركونهم في آخرتهم.

والآيات القرآنية واضحةٌ في هذا الصدد، فهي لا تُحرّم على المؤمن أن يأخذَ نصيبَه من الدنيا بل هي تأمرُه بالجمع بين مطالبِ الدنيا ومطالب الآخرة، وتريد منه استخدامَ طاقاتِه وإمكاناتِه للإحسان وللعمل الصالح. يقول سبحانه وتعالى:

(وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ).(القصص/77).

وفي هذا الصدد وردتْ خطبةٌ رائعةٌ، وذائعةٌ، لمولانا أمير المؤمنين الإمام عليّ -عليه السلام- يقولُ فيها:

(اعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ، أَنَّ الْمُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا وَآجِلِ الْآخِرَةِ، فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ، وَلَمْ يُشَارِكُوا أَهْل الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ؛ سَكَنُوا الدُّنْيَا بَأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ، وَأَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ، فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ الْمُتْرَفُونَ، وَأَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ الْجَبَابِرَةُ الْمُتَكَبِّرُونَ، ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ الْمُبَلِّغِ، وَالْمَتْجَرِ الرَّابِحِ).

فإذن بمقتضى آيات القرآن الكريم والنصوص الإسلامية يحقُّ للمؤمنين أن يأخذوا نصيبَهم من هذه الدنيا، ولكنْ تأتي النصوصُ الدينيةُ لتطلبَ منهم أن  يتعاملوا معها (أي مع الدنيا) على أساسِ أنها دَارُ مَمَرٍّ لا دارِ مَقَرٍّ، وعلى أساس أنها متجرٌ للآخرة، يكتسبون فيها الرحمة ويربحون فيها الجنَّة. وتطلب  منهم أيضاً أن يكونوا على ذكرٍ للموت وعلى تجهُّزٍ دائم للانتقال إلى عالم الآخرة.

ذكر الموت:

——-

هاهنا تبرزُ خاصّيةٌ مهمَّةٌ لأهل الله وأهل الإيمان وأهل الأخرة، فالمؤمن لا بدَّ أن يكون ذاكراً للموت غير متهيّبٍ لذكره، بمعنى أن يعرف بأن له يوما يلاقي فيه وجه ربه. وهذه صفة أساسية لدى المؤمن. وليس المقصود فيها طبعاً ذكر الموت فقط، بل ذكر ما بعده أيضاً.

فالمؤمن قد يخاف الموتَ لا لأنه نهاية الحياة، بل خشية من ان ينتقل من الدنيا ولم يؤدِّ امتحاناتها بشكل جيد.، وليس دقيقاً القول إنَّ المؤمن لا يخاف الموت، بل إن الخشية من الموت حالةٌ طبيعيةٌ لدى كلّ إنسان، فنحن غرباء عن عالم الآخرة ولم ندخل هذا الباب من قبل. والإنسان يخاف من المجهول وهو ابن هذه الدنيا التي اعتاد عليها ويصعب عليه فراقها على قاعدة “لا يُلام الرجل على حبّ أُمّه”، كما يقول الإمام عليّ عليه السلام.

ولكن ذلك لا ينبغي أن يجعلَنا نتجنَّب ذكرَ الموت والتفكّر فيه، وذكرَ أننا مقبلون عليه يوماً ما، فكلُّ نفسٍ ذائقة الموت. وهناك أمور كثيرة قد تحدث، أو قد لا تحدث، لنا في الحياة، لكن الموت يقيناً سيحدث لنا، ويجب أخذه في حياتنا بعين الاعتبار  والتفكير فيه على الدوام.

خصوصاً أنَّ الإنسان المؤمن مدعوٌّ من قبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للإكثار من ذكر الموت. ففي الحديث المروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

(أكثِروا من ذِكرِ هادمِ اللذات؛ فإنه يذكِّرُ الآخرة).

كيف يذكّرنا الموت بالآخرة؟

—————

بمعنى أنَّ الإنسان قد تشغلُه المشاغلُ والملذَّات في هذه الدنيا، فيتلهَّى بها عن التفكير بآخرته والعمل لها، حتى لو كان مؤمناً، وحتى لو كان ملتزماً بالعبادات، حيث يصلّي ويصوم ولكنه لا يلتفت إلى الأعمال الأُخرى الصالحة والتي تشكّل ذخيرة الآخرة. لكنه عندما يتذكَّر الموت، يُعيد تصويب البوصلة، فيتوقف متأمّلاً الموت وما بعد الموت، ويفكّر مليَّاً في ما ورد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تتحدَّث عن الموت وما يحدث بعده في عالم الآخرة.

هكذا يتعرَّف المؤمنُ ويتأمَّل في كل هذه المراحل والأحوال: ماذا يحدث لحظة الموت، وفي القبر، أو مرحلة البرزخ،وبعده في يوم القيامة والنشر، وما يجري من حساب وتطاير للكتب وسوق الى الجنة، أو إلقاء في النار. فالتعرُّف على كل هذه الأمور ضروري، ويزيد من جرعة الإيمان عندنا ويجعلنا نخفّف من انجرافنا وراء الدنيا  وملذاتها وشهواتها، وإن كانت في الحلال، لنتحرك أكثر فأكثر في أعمال الخير والتزوّد للآخرة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أديموا ذكرَ هادم اللذّات، قالوا: يا رسول الله وما هادمُ اللذات؟ قال: الموت فإنه من أكثر ذكرَ الموت سلا عن الشهوات ومن سلا عن الشهوات هانت عليه المصيبات ومن هانت عليه المصيبات سارع في الخيرات).لاحظ التسلسل في الانتقال من الخوف الى المسارعة في الخيرات.

وإذا ما تمعنَّا في الموت فسنجد بأن تأمُّلَه هو، في جوهره، تأمُّلٌ  في الذات وفي معدنها الداخلي الحقيقي؛ بمعنى أنه –وفي حالاته كافةً- سيتحوَّل إلى عملية تأنٍّ وتروٍّ في الحياة وعودة إلى الذات وتغلل فيها وإجراء جردة حسابات حقيقية معها ولأجلها، وقد يتحوَّل إلى عملية روحية تُعرِّف الإنسانَ إلى نفسه،  ومن عَرَفَ نفسَه فقد عَرَفَ ربَّه.

هذه حقيقةٌ مجرَّبةٌ. فالإنسان يحتاج إلى أن يتأمَّل في رائع خلقته، ويحتاج أيضاً إلى التأمُّل في حقيقة نفسه؛ في حركاتها وسَكَناتها وتصرُّفاتها وعلاقاتها، وفي حاجاتها ونقاط ضعفها، ومتى فعل ذلك فهمَ نفسَه وفهمَ مدى حاجته الى الله والى الدين في الحياة، وغيَّرَ أشياء كثيرة في نفسه وتقرَّب الى ربّه، متذكّراً أنه مبعوثٌ ليومٍ عظيمٍ يقوم فيه الناسُ لربِّ العالمين.

يقول الإمام جعفر الصادق (ع): (ذكْرُ الموت يُـميت الشهوات في النفس، ويقطع منابتَ الغفلة، ويُقوّي القلبَ بمواعدِ الله، ويُرِقُّ الطبعَ، ويكسرُ أعلام الهوى، ويطفيء نارَ الحرص، ويُحقرُ الدنيا، وهو معنى ما قال النبي (ص): (فكرُ ساعةٍ خير من عبادة سنةٍ).

فوائد ذكر الموت:

———-

وثمَّة فوائد جليلة وعديدة أُخرى لذكر الموت، منها:

1/ أنه يجعل الإنسانَ أكثر طمأنينةً تجاه لحظة الموت، وأقلّ خوفاً منها وأكثر تسليماً، فهي قد تأتي فجأةً فتصدم الإنسان.

الإمام عليّ -عليه السلام- يقول في جزءٍ من  وصيته الرائعة لابنه الحسن (ع): (يا بني أكثر من ذكر الموت وذكرِ ما تهجِمُ عليه وتُفضي بعد الموتِ إليه حتى يأتيَك وقد أخذت منه حذرَك، وشددتَ له أزرَك، ولا يأتيك بغتةً فيَبهَرُك).

2/إنَّ ذكْركَ الموتَ يجعلكَ قريباً من الله، مدركاً لحضورك بين يديه، وهذا ما يورث محبة الله، كما ورد عن الرسول (ص): (من تواضعَ للَّهِ رفعَهُ اللَّهُ ومن تُكبِّرَ وضعَهُ اللَّهُ ومن أكثر ذِكرَ الموت أحبَّهُ اللَّه).3/ وذكر الموت يدفع الإنسان للسؤال والاستعلام عن الآخرة. فالمؤمن يحتاج الى التعرُّف على ما يفضي إليه بعد الموت، ويحتاج الى التعرُّف على أحوال عالم الآخرة. فعلى سبيل المثال، إذا أراد أحدٌ منا الذهاب في زيارة مؤقتة الى بلدٍ ما، حتى لو كانت زيارة سياحية مؤقتة، فإنه قبل الانطلاق يحاول أن يتعرَّف على محطات الطريق، وعلى طبيعة البلد الذي يريد السفر إليه، لتكوين فكرة مبدئية على الأقلّ. فلا يعقل أن يسافر شخصٌ من دون أن يعرف شيئاً عن مقصده أو عن محطات الطريق؟ فلا يفعل ذلك إلا الأحمق.

فكيف إذا كانت هذه الرحلة إلى عالمٍ ينقطع فيه تماماً عن هذه الدنيا؟ رحلة يترك بسببها عيالَه وأموالَه وأحبابَه؟ رحلة إلى دار البقاء الأبدي؟

سيكون شبيهاً بذلك الأحمق إذا لم يُعدّ نفسه لمثل هكذا رحلة حاسمة وأبدية، فيتعرَّف على محطَّاتها ومقاصدها، ويتفكَّر فيها، وهذا هو معنى (التزوّد) الوارد في الأيات والروايات.

يُروى أن أحد الصحابة سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من أكيس الناس؟

فأجابه صلى الله عليه وآله وسلم: (أكثرهم ذكراً للموت، وأشدّهم استعداداً له، أولئك هم الأكياس، ذهبوا بشرفِ الدنيا وكرامةِ الآخرة).

ومع ذلك فهناك الكثير من الحمقى والغافلين بيننا الذين يجهلون قيمة المعاد فيضيّعون كرامة الآخرة.

بعد فوات الأوان:

———-

قال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).

الرجوع إلى الدنيا أمرٌ غير ممكن بعد الموت. وقد كان المجال مفتوحاً أمام العاصي للعمل الصالح في حياته، فلِمَ لم يعمَل؟ ولماذا أوقع نفسه بالندم والحسرة حيث لا ينفعه الندم؟ لِـمَ أضاع كرامة الآخرة؟

الجواب: لأنه كان غافلاً عن الآخرة، نائماً في الدنيا، منشغلاً بالشهوات والآمال والأهواء، فلم يطَّلع، ولم يهتمّ، ولم يؤمن، ولم يعمل.

ومتى استيقظ من غفلته، وعرف حقائق الآخرة، وفهم طبيعة العملة الرائجة هناك، وقرَّر أن يصبح صالحاً… كان الأوان قد فات. وبحسب اللغة المدرسية ليس هناك (دور ثانٍ) !

فقد كان المطلوب منه، في عمره المديد، أن يعمل صالحاً في جزءٍ من ماله، أن يُخرج شيئا من هذا المال في الخمس والزكاة، أن يتصدَّق تطوُّعاً، لكنه لم يكن يصنّف نفسه على الذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (الذاريات/19). لم يكن يحسن كما أحسن الله إليه، لم يكن من المصلّين، من المتصدّقين، من الصالحين، لم يكن شيئاً من ذلك كلّه.

ولماذا لم يكن منهم؟ لأنَّ همَّه في الحياة لم يكن الادّخار أو التزوّد للآخرة، ولأنَّ تزكية النفس لم تكن تعني له شيئاً، كما لم تكن الأعمال الصالحة تعني له شيئاً. فقد كان يبخل، وكان غافلاً، لذلك هو في الآخرة من الخاسرين.

الإمام عليّ -عليه السلام- يقول بحق هؤلاء: (الناس نيامٌ فإذا ماتوا انتبهوا).

حياة الابتعاد عن ذكر الموت:

—————–

وبالفعل إننا نعيش في ثقافةٍ فيها أكثر الناس نيام، ويرفضون الحديث عن الموت،بل لا يشعرون بالراحة عند الحديث عنه، ولا يريدون من أحد أن يذكّرهم به، ويعتبرونه حديثاً غير مرغوب فيه أبداً.

هنا في عالمنا المادي المتقدم، في هذه الثقافة المادية، يقولون لك: (شيئان يستحيل التحديق فيهما: الشمس والموت). لكن واقع الشمس وواقع الموت يقول ، إذا لم يمكنك أن تحدّق في قرص الشمس أو في وجه الموت،فهذا لايعني أن بإمكانك انكارهما أو تجاهلهما ، لأنهما حقيقتان واقعتان، شئنا أم أبينا .

وللأسف فإن الناس هنا لايعرفون عن الموت سوى أنه نهاية مأساوية للحياة وخاتمة للشهوات والعلاقات. لذلك هم يحاولون غالباً إبعاد شَبَحِه عنهم، ولكن بماذا؟ باللعب واللهو والمتع العابرة والاستغراق المادي الدنيوي في كلّ شيء، وفي تصوّر أنه من المبكر التفكير بالموت، وكأن الموت كتب على الشيوخ والمسنين فقط.!

والقرآن الكريم يخاطبهم ويخاطبنا جميعا : (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ).(النجم/59-61)

القرآن الكريم يقول لهم بأنه حريٌّ بكم أنْ تتعجَّبوا من حالكم لا من القرآن ومفاهيم الإسلام، أن تتعجبوا مما أنتم فيه من لهو وغفلة وانصراف عن الحق  والآخرة. فهذا يُفوِّت عليكم الفرصة ويحرمكم خيراً كثيراً. لكن للأسف فالصفة الرئيسية لهؤلاء هي أنهم (سامِدون) أي لاهون غافلون.

هذه حال وصفة اهل الدنيا: صفة مَنْ قستْ قلوبُهم وغلبهم الشيطان والنفس، تراهم إلى جانب انصرافهم عن الحق وغفلتهم يسخرون من أهله ويضحكون استهزاءً بهم.

بينما كان من الأولى ان يبكوا على أنفسهم وعلى ما فاتهم من الخير.

 حذار من الغفلة:

———-

يقول سبحانه عنهم سبحانه وتعالى في اية آخرى تصف حالهم:  وتعالى عنهم:

(يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاة الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الْآخِرَة هُمْ غَافِلُونَ).(الروم/7).

إنَّ الآخرة هي آخر ما يريد أهل الدنيا وأهل الغفلة أن يفكروا فيه أو أن يبذلوا جهداً ووقتاً ليتعرفوا عليه!

وحتى في ما يتعلَّق بأمور هذه الدنيا فإنَّ نظرتهم إليها سطحية، فهم ينشغلون بالقشور ويتركون الجوهر، ويعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، دون أي تعمُّق.

 هناك بعض الناس يدخلون الى جنازة قريب أو صديق لهم، ويرون حالة الموت ماثلةً أمامهم، وكيف أنَّ الميت لن يعود، ومع ذلك لا يهزُّهم الموضوع، ولا يفكرون بالموت. قد يفكّرون بالميت ولكنهم لا يفكّرون بالموت!! وكأن الموت – على حدّ تعبير الأمام علي (ع) على غيرنا كُتب !

 وبدلا من أن تتحول مجالس الترحيم عندنا الى مُذكّرات بالموت والأخرة ، نجعل منها مجرَّد واجب اجتماعي نقوم به ونعود إلى بيوتنا سالمين غانمين!

 ثمَّة أناس تقسو قلوبهم الى هذه الدرجة، فلا تؤثّر بهم موعظة الموت ولا تهزهم! كل شي عن عالم الدنيا يعلمونه فهو مبلغ علمهم! يهتمّون بالتعرُّف على أسماء المشروبات والسيّارات والموديلات والتقليعات الجديدة، وأفضل طرق جمع المال وجنيه، وكيفية دفع الضرائب وتوزيع الأموال وتكديسها، والقيل والقال والفضائح والإشاعات وأخبار الناس والجيران، والأخبار السياسية وأسماء الزعماء السياسيين، وماذا قال هذا الزعيم، وماذا فعلت تلك الإعلامية، وما حدث من جرائم وحوادث. ناهيك عن أخبار أهل الفن، وماذا حدث للممثل الفلاني وماذا حصل للمطربة الفلانية، وأخبار وتفاصيل عن الثياب التي يلبسونها وحياة العهر التي يعيشونها. وأسماء الفرق الرياضية، وأوقات المباريات، وأخبار اللاعبين، وما  تحويه علب الفيتامين المختلفة، وعدد السعرات الحرارية في كل نوع من الطعام أو الشراب، وأنجح الطرق لتخفيض الوزن، ومعلومات عن كل شيء، بما في ذلك وباء  كورونا… ولو وضع كل واحد منَّا بعض الجهد للتعلُّم عن الآخرة، التي يمكن أن ينقلنا اليها كورونا لا سمح الله، لعَرَفَ كلَّ ما يحتاجه.

أي إنّ أهل الدنيا يُدخلون الى منظومتهم المعرفية كمَّاً هائلاً من المعلومات التي قد لا يحتاجون إليها كلّها، ولا يلقون بالاً للتعرُّف على أمور الآخرةة!!

ماذا يتوجب علينا فعله؟

————-

أمَّا المؤمن فلا بدَّ أن يُدخل الى منظومته المعرفية معارفَ عالم الآخرة. وبالطبع لا مشكلة في أن يعرف الكثير من الأمور عن دنياه، حتى عن بعض الأمور التي ذكرتُ سابقاً، فالمؤمن كيّس فطن، ولكن ينبغي له أن يكون بعيد الفكر في نظرته الى الدنيا وألا يكون غافلاً عن الآخرة، فلا بدَّ أن يعرف عنها، من أين أتى والى أين ينتهي، ويستعدّ لها، علماً بأن التعرُّف على المعلومات المتعلّقة بالآخرة صار أمراً سهلاً.

وفي هذا المجال نستطيع الاستفادة من الكتب الكثيرة المبسّطة، ومن الاستماع الى مواعظ العلماء ودروسهم، وأيضاً مما أتاحته الوسائط الحديثة، من إنترنت وشاشات وأدوات تسجيل وبثّ وهواتف ذكية… فكلُّ هذه الأمور باتت تُسهّل الوصول الى المعرفة.

وها نحن الآن في هذا الشهر الفضيل، شهر القرآن الكريم، الذي نقرأ فيه  كتاب الله. فلنتوقَّفْ ولنتمعَّنْ ولنتدبَّرْ في معاني آيات الآخرة، ولنُعطِ وقتاً وجهداً لهذا الأمر في حياتنا.

وختاماً نقول، إن القرآن الكريم هو كتابُ الهداية الأكبر، وحبلُ الله المتين، مَنْ تمسَّك به نجا ومن أعرضَ عنه هَلَك، فيه الهدى وفيه النور، وفيه الشفاء، وفيه الرحمة، قال سبحانه وتعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا).(الاسراء/9).

ونحن على ذلك من الشاهدين.

Contact Us

We're not around right now. But you can send us an email and we'll get back to you, asap.

Not readable? Change text. captcha txt

Start typing and press Enter to search