في ذكرى ولادة الامام علي (ع) الشخصيّة العابرة للتاريخ

15/02/2022

ديربورن

 

المنهلُ العذب:

————–

كانت العربُ تقول في بعض أمثالها ((المنهلُ العذبُ كثيرُ الزحام))، والمثل غير مقتصر على موارد الشرب ومنابع الماء العذب النقيّ، وإنما يمكن سحبه على الشخصيّات الانسانيّة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، تلك التي أثرت الحياة بالعطاء، والمكتبات بالعلم، وبقيت كالأنهار الخالدة التي استقت منها أجيال وأجيال ومازالت قادرةً على الريّ والإرواء.

علي بن أب طالب (ع) هو أحد هذه الشخصيّات الممتدة تاريخيّا، بل هو في الطليعة منها، ولذلك فإن من يعرفُ عليّا جيّدا، لا يملك إلاّ أن يحبّه، بل يعشقه، لأنه ذو شخصيّة آسرة، وأنموذجا تربوياً معطاءً، وصدق الشاعر الذي قال:

 لا عذّب اللهُ أمي إنــّــها شربت                       حبَّ الوصيّ و غذّتنيه باللبنِ

 وكان لي والدٌ يهوى أبا حسن ٍ                       فصرتُ من ذي وذا أهوى أبا حسنِ

وهذا الذي نصطلح عليه ب (تواصل الأجيال) .. ليس حبّاً متوارثاً على الطريقة التقليدية الرتيبة، بل حبّ قابل للنمو والتنمية، والتطور والازدهار، حب يوافقُ جميع العصور، شأنه شأن النور لن تنخفض قيمتُه في سوق المعنويات أبدا.

إننا كّلما تذكرنا اميرَ المؤمنين علي (ع)، وقرأنا حياة علي بتعمّق أكثر،  وتأملنا في سيرة علي، وغصنا في تاريخ علي،  ومواقف وانجازات علي ، أخذنا عليٌّ وأُخذنا بعليّ. أخذنا عليٌّ ببطولته، و بورعه وتقواه ، وببلاغته وبيانه ،الذي قال ابن ابي الحديد عنه (( كلام علي دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوق))،  وبعبادته التي يُسأل الامام زين العابدين(ع) عن حسن عبادته، فيقول ((أين عبادتي من عبادة جدّي أمير المؤمنين !!) ،وبعدالته التي يُنصفُ بها حتى خصمه، فيقول القاضي الذي اشتكى لديه يهودي على درع لعلي: كأنك لم ترضَ بحكمي! قال له : بلى، ، ولكنك كنّيتني ولم تكنّه !! أي ناديتني بأبي الحسن وناديته باسمه. وبمواعظه التي ملأت أركان (نهج البلاغة)، وبشهامته وغيرته على دين الله وافتدائه له بنفسه، وبصدقه الذي يشهد له بقوله ( ما مُسك علي بكذبةٍ منذ كنتُ طفلا) ويشهد له به حفيده علي بن الحسين(ع) حينما سئل : بمَ نالَ جدك تلك المنزلة؟ قال ((بالصدق في المواطن)) وبعلمه الذي قال عنه (( علّمني رسولُ الله ألفَ بابٍ من العلم يُفتح لي من كلّ باب ألفُ باب)) وبزهده المتعالي على فتات الدنيا : (( يادنيا طلّقتك ثلاثاً لا رجعةَ لي فيك)) !

ونؤخذُ بعليّ حينما يتجلّى لنا إنسانا كاملاً حائزاً على كلّ صفات الكمال الانسانيّ.. علي (ع) ليس آيةً من آيات الاعجاز الربّانيّ وحسب، بل هو ((آيته الكبرى والنبأ العظيم))!

 

جامعُ الأضداد:

————–

أن يحوز الانسان بعض صفات الكمال، فذلك منقبة، أما أن تجتمع فيه النقائض وتلتحم في ذاته المطهّرة الأضداد والمتعاكسات لا على نحو القيمة الايجابية وما ينافيها، بل على نحو القيمة الايجابية التي تُكلل بمقابلتها السلبيّة، فهو البطل الهمام في ساحات الوغى نهارا، وهو الذليل الخاشع المنكسر بين يدي الله ليلا، وهو السخي الجواد الذي يعطي فلا يستبقي شيئا، وهو الزاهد بكلّ شيء، وهو المتنمّر في ذات الله على أعدائه وعلى كل ألوان الظلم والباطل، وهو المتألم المجروح للثكالى والأرامل واليتامى والمساكين.

 

 يقول (العلاّمة صفي الدين الحلي) المتوفى في القرن الثامن الهجري بهذا الصدد:

 

 جُمِعَتْ في صِفاتِكَ الأَضْدادُ                                 فلِهذا عَزّتْ لك الأَندادُ

زاهدٌ حاكمٌ حَليمٌ شُجاعٌ                                       فاتكٌ ناسكٌ فَقيرٌ جَوادُ

 شِيَمٌ ما جُمِعْنَ في بَشَرٍ قَطْ                                 ولا حازَ مِثْلَهُنَّ العِبادُ 

خُلُقٌ يُخجل النَسيمَ من اللطفِ                             وبأسٌ يذوبُ منه الجمادُ

 

هذا هوعلي مجمعُ الفضائل الإنسانية، ومنارة الكمال الالهي، وغصنٌ ممرع ٌرائع مزهٌر مثمرٌ في شجرة النبوة .. هو ربيب رسول الله الذي قال ((رسولُ اللّه ربيبُ الله، وأنا ربيبه)) فإذا كانت مريم ابنة عمران (ع) التي تقبلها الله بقبول حسن وكفّلها زكريا، قد أنبتها نباتاً حسنا، وإذا كان موسى الكليم (ع) قد صُنع على عين الله، فما بالك بمن تكفّل النبي (ص) بتربيته، وأغدق الله عليه من عنايته؟!

الشاعر الفرنسي المشهور (لامارتين)  يقول: انا لا أشكّ بنبوة محمد؟ لأن عليا ًقد آمن به. ولأن شخصية علي هي دليلٌ اخر على نبوّة محمد: فلا يربّي هكذا رجلٌ عظيم الا الأنبياء المتصلون بالسماء!!

هو ليس دليلاً على نبوّة النبي (ص) بل على قدرته التربويّة الفائفة في إعداد وتأهيل علي (ع) ليكون أسوةً حسنةً مثله، ومثلاً أعلى للامّة، ولذلك أمره باتباعه فأطاعه ، فكان يقفو أثره خطوةً بخطوة، وقد قال عن ذلك  موثّقا((ولقد كنت أتبعه إتباعَ الفصيلِ أَثَرَ أمِه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه عَلما ويأمرُني بالاقتداء به))

 

الشخصية العابرة للتاريخ:

———————–

وحين نتحدث عن علي (ع)، فنحن نتحدث عن شخصية تاريخية حقيقية، لاعن أسطورة نسجها خيال، بل نتحدث عن شخصيّة عابرة للزمن، فلا زال شاخصاً وماثلاً وآثاره تملآ الكون، ولا نتحدث عن فضائل ومناقب ومزايا وخصال عفا عليها الزمن…يكفيه انه في تاريخ الإسلام ه الوحيد الذي استحق لقب الإمام، فالجميع يذعن لعلي بذلك، حتى الأعداء وحتى البُعداء.

ورحم الله (الخليل بن أحمد الفراهيدي) حينما سئل: كيف عرفت أو استدليت على إمامة علي(ع) ، فقال(( احتياجُ الكلّ اليه، واستغناؤه عن الكلّ، دليلٌ على أنه إمام الكلّ))!!

ومع أن أعداء علي (ع) تعاهدوا على سبّه ثمانين عاما على منابرهم ، لكنه إذا ذُكِر كلّ الخلفاء والصحابة أجمعين، وقيل الإمام – فلا يتبادر اللفظ ولا تتجه الأنظار مُباشَرةً- لدى كل المسلمين سُنةً وشيعة- الا الى الإمام عليّ(ع).

 

الانتشار العجيب:

—————–

يقول (عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل)، كما يذكر ابن حجر في (فتح الباري) سألت أبي قائلا: يا أبتي ما هذه الأحاديث في فضائل مُعاوية؟ (أي أن هناك عددا من الأحاديث لفّقت في فضائل مُعاوية) والآن يغالبوننا بها، فماذا تقول في هذه الفضائل؟

فقال (يا بُني إن عليّاً كان رجلاً له أعداء ففتَّش له أعداؤه عن عيبٍ فلم يجدوا، فعمدوا إلى رجلٍ عاداه فافتروا له فضائل كياداً بعليّ) ويقصد (مُعاوية بن أبي سُفيان) لأنه أكبر عدو لعليّ في وقته، ولكي يكيدوا عليّاً وأتباع عليّ ألَّفوا واختلقوا فضائل لمُعاوية، فالإمام أحمد يقول بشكل واضح وصريح إنه لا تُوجَد أية أحاديث صحيحة في فضل مُعاوية بن أبي سُفيان.

 

تصوروا أنّ أعداء علي(ع) فتشوا عن عيب واحد لعلي فلم يجدوا، ومرة أخرى رحم الله (الفراهيدي) هذا الرجل العارف بعلي وبحق علي (ع) حيث يقول ((عجبتُ لرجلٍ أخفى أعداؤهُ فضائلَه حسداً، وأخفى أولياؤه خوفاً، فكان له من الفضائل ما ملأ المشرقين)) لذلك ولغيره استحق لقب الإمام بجدارة وامتياز وبلا منازع!

ويذكر الرواة أيضا أن اشخاصا كانوا يمدحون الإمام عليا (ع) في حضرة معاوية، وكان معاوية يسألهم :لماذا تمدحون عليا: فكانوا يذكرون اسبابا:

من ذلك ما رواه( ابن صباغ المالكي) في (الفصول المهمة)  من أن معاوية دخل عليه (خالد ابن معمر)  فسأله :علام أحببت عليا؟  فقال له على ثلاث خصال: ((على حلمه إذا غضب، وعلى صدقه إذا قال، وعلى عدله اذا حكم)) ويحقّ لنا – من وجهة نظر نفسيّة- أن نقول بان أوجع ما يصاب به عدو أن تذكر له فضائل عدوه أمامه، حتى لكأنه يقول لك: لو اطلقت النارَ علي لكان أهون!

لهذا ولغيره أحب الناسُ عليا، احبوه – من مختلف المشارب والاتجاهات والطوائف والديانات-لأجل إخلاصه وصدقه وعدالته. …

الكاتب المسيحي (جورج جورداق) كتب موسوعة قيمة من خمسة أجزاء بحق علي أسماها:  (علي  صوت العدالة الإنسانية) و(علي وحقوق الانسان) و( علي وسقراط) و(علي والثورة الفرنسيّة) و(علي والقومية العربية).

ويبقى الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) حقيقةَ التاريخ الكبرى بعد رسول الله (ص)،، وسواء عرفناه أم لم نعرفه، فالتاريخ  في شتى مراحله وشعبه والحقيقة بكل تجلياتها، يُذعنان بأنّ له ضميراً حيّاً ، وخلقاً رسالياً رفيعا، وإنجازات فريدة مازالت الإنسانية تتغذى وتعتاش عليها.  وحسبه أنه أبوالشهداء والأحرار،وأنه صوت العدالة الإنسانيّة!  وأنه فخر التاريخ  الذي قال عنه الكاتب والشاعر اللبناني المسيحي( بولس سلامة):

 

      لا تَقُل شيعةٌ هواةُ علٍّي

                                                                  إنَّ كلَّ منصفٍ شيعيا

       هوَ فخرُ التاريخِ لا فخرَ شعبٍ

                                                                يصطَفِيهِ ويَدعِيهِ وَلِيَّا

                                            ( الى ان يقول 🙂

     جلجَلَ الحقُ في المسيحي حتى

                                                            صارَ مِن فَرطِ حُبِهِ عَلَويّا

     أنا مَن يَعشقُ البطولةَ والإلهامَ

                                                              والعدلَ والخُلقَ الرَضِيّا

     فإذا لم يكن عَليٌّ نَبيّاً

                                                                 فلَقَد كانَ خُلُقَهُ نَبوّياَ

رسّام شاهد عليّاً فرسمه

________________

ونختم كلامنا هذا بوصف لأمير المؤمنين (ع) على لسان أحد حوارييه (ضرار الصدائي) وصفه لمعاوية بكلام يحس قارؤه انه لا يصدر عن الشفاه ، بل يتردد مع خفقات القلب ونبضات العروق، يقول ضرار في رسم صورة حيّة ناطقة للإمام العظيم بكلمة موجزة صائبة:

 

دَخَلَ ضِرَارُ بْنُ ضَمْرَةَ عَلَى مُعَاوِيَةَ ، فَقَالَ لَهُ ـ معاوية ـ : صِفْ لِي عَلِيّاً ؟ فَقَالَ لَهُ : أَ وَ تُعْفِينِي مِنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : لَا أُعْفِيكَ .

فَقَالَ : كَانَ وَ اللَّهِ بَعِيدَ الْمُدَى ، شَدِيدَ الْقُوَى ، يَقُولُ فَصْلًا ، وَ يَحْكُمُ عَدْلًا ، يَتَفَجَّرُ الْعِلْمُ مِنْ جَوَانِبِهِ ، وَ تَنْطِفُ الْحِكْمَةُ مِنْ نَوَاحِيهِ ، يَسْتَوْحِشُ مِنَ الدُّنْيَا وَ زَهْرَتِهَا ، وَ يَسْتَأْنِسُ بِاللَّيْلِ وَ وَحْشَتِهِ .   كَانَ وَ اللَّهِ غَزِيرَ الْعَبْرَةِ ، طَوِيلَ الْفِكْرَةِ ، يُقَلِّبُ كَفَّهُ ، وَ يُخَاطِبُ نَفْسَهُ ، وَ يُنَاجِي رَبَّهُ ، يُعْجِبُهُ مِنَ اللِّبَاسِ مَا خَشُنَ ، وَ مِنَ الطَّعَامِ مَا جَشَبَ .

كَانَ وَ اللَّهِ فِينَا كَأَحَدِنَا ، يُدْنِينَا إِذَا أَتَيْنَاهُ ، وَ يُجِيبُنَا إِذَا سَأَلْنَاهُ ، وَ كُنَّا مَعَ دُنُوِّهِ مِنَّا وَ قُرْبِنَا مِنْهُ لَا نُكَلِّمُهُ لِهَيْبَتِهِ ، وَ لَا نَرْفَعُ أَعْيُنَنَا إِلَيْهِ لِعَظَمَتِهِ ، فَإِنْ تَبَسَّمَ فَعَنْ مِثْلِ اللُّؤْلُؤِ الْمَنْظُومِ ، يُعَظِّمُ أَهْلَ الدِّينِ ، وَ يُحِبُّ الْمَسَاكِينَ ، لَا يَطْمَعُ الْقَوِيُّ فِي بَاطِلِهِ ، وَ لَا يَيْأَسُ الضَّعِيفَ مِنْ عَدْلِهِ ، وَ أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِهِ ، وَ قَدْ أَرْخَى اللَّيْلُ سُدُولَهُ ، وَ غَارَتْ نُجُومُهُ ، وَ هُوَ قَائِمٌ فِي مِحْرَابِهِ ، قَابِضٌ عَلَى لِحْيَتِهِ ، يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ السَّلِيمِ ، وَ يَبْكِي بُكَاءَ الْحَزِينِ ، فَكَأَنِّي الْآنَ أَسْمَعُهُ وهُوَ يَقُولُ : يَا دُنْيَا ، يَا دُنْيَا ، أَ بِي تَعَرَّضْتِ ؟ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ ؟ هَيْهَاتَ ، هَيْهَاتَ ، غُرِّي غَيْرِي ، لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ ، قَدْ أَبَنْتُكِ ثَلَاثاً لَا رَجْعَةَ لِي فِيهَا ، فَعُمُرُكِ قَصِيرٌ ، وَ خَطَرُكِ يَسِيرٌ ، وَ أَمَلُكِ حَقِيرٌ ، آهِ آهِ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ ، وَ بُعْدِ السَّفَرِ ، وَ وَحْشَةِ الطَّرِيقِ ، وَ عِظَمِ الْمَوْرِدِ .

فَوَكَفَتْ دُمُوعُ مُعَاوِيَةَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَنَشَفَهَا بِكُمِّهِ (هذا إذا لم يكن ذلك من ملمّعات صورة معاوية)، وَ اخْتَنَقَ الْقَوْمُ بِالْبُكَاءِ

وكما يقول الشاعر عنه::

 

هـو الـبـكّـاء فـي الـمحــراب ليــلاً

    هـو الـضـحّـاك اذا اشـتدّ الضـــرابُ

هـو الـنـبــأُ العظـيـمُ وفـلكُ  نــوحٍٍ

   ُوبـابُ الله وانـقــطـع الـخـطـــابُ

بقيت كلمة أخيرة ومهمة، نقولها في ذكرى كل إمام من أئمتنا (ع)، وهي أننا يجب أن لا نكتفي ب (التغنّي) بهم، بل لابدّ من (الاغتناء) بهم، علماً وأدباً وفكراً وخلقاً وصدقاً وتواضعاً وقرباً من الله وإحساناً لعباده.

 

نجدد التهنئة بهذه الولادة الميمونة المباركة، واستغفر الله لي ولكم….

 

Contact Us

We're not around right now. But you can send us an email and we'll get back to you, asap.

Not readable? Change text. captcha txt

Start typing and press Enter to search