في مئوية لبنان: مؤتمر تأسيسي لبناء دولة مدنية

جريدة “النهار”، 4 آب 2020

في هذه الأيام التي يقف فيها لبنان على حافَّة الهاوية، مع كثرةٍ كاثرةٍ من الأيدي المستعدَّة لأن تدفعه للسقوط فيها، وقلَّة الداعمين وكثرة المتربّصين، يبدو بأنَّ الخيارات أمامه قد تقلَّصت وتقلَّصت حتى اقتصرت على حلّ واحد ووحيد، شجاع وله ثمن، يكمن في الدعوة إلى مؤتمر تأسيسي جديد ينبثق عنه عقد اجتماعي جديد يضمن ولادة ثانية لهذا الكيان الذي وصل -عند بلوغ مئويته الأولى- إلى طريق شبه مسدود.

فالدعوة إلى هذا المؤتمر التأسيسي الإنقاذي هي دعوة ليست فقط لتأسيس مرحلة جديدة، بل إنما هي دعوة أيضاً لاستئناف وجود لبنان كدولة وككيان مهدَّدَيْن في الصميم.

إنَّ التغيير الدستوري الحقيقي، والجذري، لم يعد مجرَّد رأي أو وجهة نظر، بل صار شرطاً بنيوياً لبقاء لبنان واستمراره.

فلا يُعقل أن يتغيّر كل شيء في البلاد ولا تتغير الصيغة الطائفية التحاصصية المقيتة التي شكَّلت البيئة المثالية لشتى أنواع الفساد وديمومة الشحن الطائفي المذهبي. فتفكيك هذه الصيغة الطائفية هو –بالضرورة- تفكيك لهذه البيئة الحاملة والداعمة للفساد الذي أوصل البلاد إلى ما وصلت إليه من فقر وانهيار وشبح مجاعة.

إنَّ الظرف القاسي اليوم الذي يدفع باتجاه أخذ هذا القرار الشجاع، لا بدّ أن يذكرنا بقوله سبحانه وتعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهْوَ خَيْرٌ لَكُم..) (سورة البقرة: 216).

فلربّما كنّا نحتاج المرور بهذه الأزمة الكبرى لنتخذ قرارتٍ كبرى. فـ”الجرح –كما يقول الشاعر- يلزم مبضعاً لا مرهما”.

لماذا لا نحوّل هذه الأزمة إلى مفتاح خلاص وعبور نحو المستقبل؟ لماذا لا نحوّل الداء إلى دواء؟ بل لماذا سنبقى أسرى صيغة أسَّست لكل الكوارث التي مرّ بها لبنان؟

إنَّ إيقاف الانهيار الحاصل مرهونٌ بقرار شجاع تتخذه القوى السياسية الفاعلة بالذهاب نحو مؤتمر تأسيسي إنقاذي لخلق لبنان الجديد وإحداث التغيير الدستوري الحقيقي الذي يلحظ جميع الهواجس ويضمن حقوق جميع المكوّنات، خصوصاً المكوّن المسيحي، ويأخذ بعين الاعتبار القيم الدينية التي يلتزم بها المجتمع اللبناني، ويراعي القوانين الدينية للأحوال الشخصية..

وربما يجدر بالحراك الشعبي أن يضيف إلى حزمة مطالبه، مطلباً أساسياً هو مطالبة القوى والأحزاب السياسية التي تنال ثقة شرائح معتبرة ووازنة من اللبنانين بالإقدام على طرح خطط سياسية إنقاذية واضحة وشجاعة تتجاوز السقف الواطئ للديموقراطية المحاصصاتية البغيضة. فالإعلان عن هذا الموقف الواضح، المقرون بخطّة إنقاذية شاملة، مطلوب من كلّ قوَّة سياسية اجتماعية تملك رصيداً لدى اللبنانيين، وعدم تسجيل موقف حقيقي وجذري في هذه المرحلة المفصلية ليس هروباً فقط من تحمّل المسؤولية، بل هو برأينا مشاركة ضمنية في إغراق السفينة المثقوبة.

فحتى لو صحَّت حالياً القاعدة التي تقول “ليس في الإمكان أكثر مما كان”، يجب أن تحاول تلك القوى قول كلمتها لتكسب شرف المحاولة على الأقلّ، ولتنجوَ من حكم التاريخ القاسي عليها في حال لم تفعل ذلك. ونحن من جانبنا نتوجَّه إلى “حركة أمل” و”حزب الله” على وجه الخصوص! فإذا كان هذا الحزب الإسلامي قد وجد سابقاً المسوّغ الفقهي والأخلاقي للمشاركة في هذا الشكل الفاسد من الديموقراطية في لبنان باعتبار أنَّ الظروف الموضوعية لا تسمح له بالدعوة والتنظير للدولة الإسلامية في المجتمع اللبناني التعدُّدي، فمن باب أَوْلى أن يتقبّل فكرة المشاركة في نظام الدولة المدنية الديموقراطية الأرقى وأن يعلن موقفه الواضح منها.

ولذلك نحنُ ندعوه هنا، وندعو “حركة أمل”، إلى تقديم ما أسميناه “شهادة براءة أمام الأجيال” من خلال تبني طرح الدولة المدنية على قاعدة “أللهمَّ اشهد أني بلَّغت”!

فهذان الحزبان دخلا معترك الحياة السياسية اللبنانية كممثلَيْن للطائفة الشيعية التي تتميّز الآن بوجود شريحة واسعة من أبنائها ومثقفيها ممن يؤمنون بالدولة المدنية كحلّ، ويتوقّعون من هذا الثنائي أن يُعبّر عن آمال الذين يمثلهم، وأن يعمل على تقديم وبلورة رؤيته لمشروع الدولة المدنية. لأن بلورة فكرة الدولة المدنية الحديثة تتطلَّب جهداً فكرياً متخصصاً، ولأن هذا الثنائي الوطني يمتلك الإمكانات والخبرات والمجموعة الفكرية القادرة على صياغة الرؤى الفكرية المناسبة والانتقال بها الى المساهمة مع القوى السياسية الأخرى لبناء الدولة المدنية التي تأخذ بعين الاعتبار جميع الهواجس لدى جميع المكوّنات.

إنَّ “اتفاق الطائف” الذي يريد بعض الزعماء المستفيدين منه تحويله إلى دستور مقدَّس، ليس في جوهره اتفاقاً بين الطوائف بقدر ما هو اتفاقٌ بين زعماء تلك الطوائف لنهش خيرات البلد وتقاسم موارده واستزلام أبناء طوائفهم واذلالهم وافقارهم. وإذا كان ذلك الاتفاق ضرورةً مرحليةً في الماضي أملتها ظروف الحرب الأهلية، فلم يعد اليوم –بعد هذا الانهيار المتسارع- يمثّل تلك “الضرورة”، بل إنه تحوّل إلى حاجز أو عقبة في طريق الحلّ الجذري لمشاكل لبنان.

فلنذهب إلى مؤتمر تأسيسي إنقاذي والى اتفاق طائف جديد، مدني غير طائفي، ولنعمل على تحديث النظام السياسي اللبناني، من دون المرور بحرب أهلية جديدة. وَلْنَتَحَلَّ في هذه المرحلة الحساسة بالمسؤولية والوعي فلسنا بحاجة إلى 18 سنة أُخرى من الدمار والويلات لتحقيق ركائز جديدة للنظام السياسي اللبناني.

إنَّ الدولة المدنية، التي قوامُها المساواة والمواطنة والمشاركة السياسية، هي الحلّ وهي المستقبل، أو هي المفتاح لباب المستقبل. والتاريخ له مجرى يسلكه، ومن الواضح أن المجرى التاريخي لقيام الدولة المدنية لا يمكن الوقوف بوجهه طويلاً. وإذا فهمت القوى السياسية الفاعلة، واستوعبت، هذه الحقيقة فعليها مسايرتها عبر طرح ما يُمهّد لها.

ولذلك فنحن ندعو من جانبنا  الثنائي الوطني، “حزب الله” و”حركة أمل”، إلى تبنّي طرح الدولة المدنية. فهذا هو المحكّ لمصداقية الرغبة في التغيير وفي إيجاد الحلول وفي نقل لبنان من ساحة للحرب الأهلية إلى واحة للدولة المدنية.

Contact Us

We're not around right now. But you can send us an email and we'll get back to you, asap.

Not readable? Change text. captcha txt

Start typing and press Enter to search