كيف تتعلّم المرأة اليوم تربية الأبناء من السيّدة فاطمة الزهراء (ع)؟!

السيّدة الأولى:

من هي السيّدة الأولى؟

هل هي المرأة التي رفع “مكانَها” اقترانُها بزوجها، كما يُقال عن زوجة الملك والأمير والرئيس، أم المرأة التي رفعتها “مكانتُها” بين النساء لِمَا حازت عليه من مواهبَ ومناقبَ، ولِمَا أحرزته من جدّ واجتهاد؟

إنَّ قصّة السيّدة فاطمة الزهراء (ع) تقدّم من الأجوبة أفضَلها، وبشكلٍ عمليّ، لهذا السؤال.

ورد عن النبي (ص) أنه قال: “فاطمة سيّدة نساء العالمين من الأولين والآخرين” (الموسوعة الكبرى عن فاطمة الزهراء (ع)، ج 19، ص 5). ورُوي عنه (ص) أيضاً: “فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة” (فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب فاطمة عليها السلام) وبهذا يكون (ص) قد أطلق السيادة المطلقة لهذه المرأة العظيمة التي ما نالت امرأةٌ في التاريخ قطّ مكانةً كمكانتها ومنزلةً كمنزلتها.

هل كان ذلك “وساماً نبويّاً” أراد أن يرفع به النبي (ص) من شأن ابنته في المجتمع، أم “وساماً ربّانياً” استحقّته الزهراء (ع) عن جدارة؟

جوابنا: إنه وسام الاستحقاق الربّانيّ من الدرجة الأولى، لا وسام التشريف الأبويّ العاطفيّ! فليس في حسابات الله (الأهل) بل (الأهليّة)، ودليلنا في القرآن الكريم أنه نفى الأهلية عن ابن نوح وإن كان ابنه من أهله! (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) (هود/ 46).

إنّ ضمير الجمع المتكلّم (نا) في آية المباهلة (ونساءَنا ونساءَكم) (آل عمران/ 57) ضمير استغراقيّ، بمعنى أنه يشمل كلّ نساء المسلمين، وليس النساء اللواتي في بيت النبيّ وحسب، وإلا قيل فاطمة تمثّل نساء البيت النبويّ فقط. وبهذا يصحّ اعتبار الواحد ممثّلاً لـلمجموع – كما كان إبراهيم (ع) لوحده أُمَّة، وأن تكون أُمَّةُ النساء ممثّلةً بمثلها الأعلى السيدة فاطمة الزهراء (ع). وإنما نشير هنا الى مقام ومنزلة السيّدة الأولى بين نساء العالمين، باعتبارها نموذجاً وقدوةً ومثلاً أعلى للنساء، تصلح للتأسّي بها في كلّ زمان ومكان. إنّها في الموقع القيادة والريادة كـ”ابنة صالحة” و”زوجة صالحة” و”أمّ صالحة” و”معلّمة صالحة” للنساء جميعاً!

البنتُ الأولى:

فاطمة (ع) كانت “مشروعَ أُمّ” قبل أن تصبح أمَّاً، مارست دور الأمومة مع أبيها قبل أن تمارسه مع أبنائها، وما كلمته (ص) بحقّها على أنّها “أمُّ أبيها” (سير أعلام النبلاء، ص 119) إلَّا تعبيرٌ عملي عن هذا الدور الكبير، أكثر منه جائزةً تكريميّةً. فلو تتبَّعنا رعايتها وحدْبها وحنانها على أبيها، على الرغم من صغر سنّها، لعرفنا كم من الأمومة الحانية والكريمة كانت تحملها هذه الفتاة التي وقفت الى جانب أبيها في أصعب المواقف وأحرج الأوقات، فكانت أكبرَ داعم له من النساء، تخفّف من معاناته، وتمسح آلامه، وتضمّد جراحه، وتعطيه من جرعات المودّة البنويّة الفيّاضة، ما كان يحتاجه في تلك الظروف، فالرسول (ص) -في النتيجة- بشرٌ يحتاج الى دعم الأهل والأنصار والأحبّة.

رافقته (ص) البنتُ – الأمُّ (ع) في كلّ محطّات معاناته الدعويّة، وفي هجرته، وشهدت ما حلّ به في معركة أُحُد، فتولَّت مداواته بعدما أصيب، وكان يجد فيها أمّاً بكلّ معنى الكلمة، وهذا ما ينبغي للأمَّهات أن يزرعنه في نفوس بناتهنَّ من  عطف وعاطفة يفضنها على آبائهنَّ وأمهاتهنَّ وأزواجهنَّ وأبنائهنَّ بعد أن يصبحنَ أُمّهات.

الأمُّ الأولى:

ولـمَّا كانت فاطمة (ع) الزوجةَ الأولى أيضاً، كونها شكّلت مع قرينها الإمام عليّ (ع) ثنائياً زوجياً رائعاً ونادراً بكلّ المقاييس، كان من الطبيعي أن تكون البنتَ الأولى، والزوجةَ الأولى، الأمَّ الأولى. وهذا ما سيدور حوله بحثنا في الإجابة عن سؤال العنوان وهو: كيف يمكن تربية الأبناء على الطريقة الفاطميّة؟

يقول علماء التربية بأنَّ “سريان روح الأمّ في أطفالها، كسريان الرائحة الطيّبة في الثياب النظيفة”. ذلك أنّ أكثر شخص يؤثر في الطفل ويتأثر الطفلُ به هو أُمّه التي تترك بصمات تربيتها على نفسه وسلوكه عميقاً وعلى مدى حياته كلّها، خاصّة إذا كانت أمّاً واعيةً صالحةً، ووفقاً لقول علماء التربية، فإنّ شيئاً من روح الأم يبقى سارياً في حياة الأبناء حتى وإن بلغوا سنّاً متقدّمةً.

وهذا ما نقرأه ونراه في تربية الزهراء (ع) لأبنائها الحسن والحسين وزينب (ع). ولا بدّ لنا أن نعرف أنّ التربية هي محصّلة جهدَيْن مشتركَيْن، وليست جهداً واحداً: هي “مجهودٌ تعليمي” و”مجهودٌ آخر تربويّ”؛ التعليميّ يتعلّق بالمهارات والملكات الماديّة، والتربويّ يختصّ بالمهارات الأخلاقيّة والسلوكيّة. وما بناءُ الشخصيّة إلا نتاج هذين المجهودين المتظافرين، فلا تكون الشخصيّة “سويّةً” فاعلة ومتفاعلة إلا بالصقل والتأديب والتثقيف والمزاولة، وهذا هو الذي يجعل منها “مواطنة صالحة”.

ولكي نتعرّف أكثر على هذا الدور من خلال تجربة فاطمة (ع)، لا بدّ من دراسة التربية من خلال النواحي الست الآتية:

1-         الناحية العقليّة:

العقلُ “أذنٌ تسمعُ” و”عينٌ تُبصرُ”، وهذان البريدان الفرعيّان يوصلان رسائلهما الى البريد المركزيّ الذي هو العقل، ليُفكّر، ويحلّل، ويرجّح، ويفرز، ويختار. يقول تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ) (النحل/ 78).

هذا الجانب في الشخصيّة الإنسانيّة لا ينمو بالتلقين وحده، بل بالحوار والمناقشة، والسؤال والجواب، والتحريض أو “العصف الذهنيّ”. فماذا فعلت فاطمة (ع) لأولادها من هذه الناحية؟

كانت تتلقَّى الحسن والحسين (ع) عندما يعودان من المسجد، وتسألهما عمّا سمعاه في ذلك اليوم من جدّهما رسول الله (ص)، فيتلوان عليها ما سمعاه بالدقّة الدقيقة، وهي بذلك تعمل على تقوية الحافظة والتركيز والاهتمام والجدّية والاستيعاب ومن ثم الوعي لديهما. وربما سألتهما عمّا فهماه من تلك الأقوال، فلم تكن تتعامل معهما كسعاة بريد، وإنما تناقشهم في بعض ما ينقلان لتترسَّخ المفاهيم أكثر في ذهنَيْهما.

وإذا كان هذا حال الحسنَيْن –عليهما السلام- فلم يكن حال زينب –عليها السلام- ليختلف على الرغم من صغر سنّها. فكثيراً ما كانت النساء تقصد الزهراء (ع) ويسألنها في الأحكام والقرآن والعقيدة والمسائل الدينية المختلفة، فينمو وعيها من خلال تلك الأسئلة والحوارات. فضلاً عن أنّ البيت الفاطميّ – العلويّ، كان بيتاً يلتقي فيه العظماءُ الستة: النبي (ص) وعلي (ع) وفاطمة (ع) والأبناء الثلاثة (ع)، وهو ما لم يحصل في أي بيت أو أسرة في التاريخ والعالم. وربما درات حوارات علميّة وتربويّة بين الأبوين العالمين المعصومين، وبينهما وبين النبي (ص) في محضر الأبناء. فهو إذاً بيتُ “حوار فكريّ” و”نقاش علميّ” و”مداولات شرعيّة” و”مفاهيم تربويّة” و”ثقافة عامَّة”.

2-         الناحية الثقافيّة:

أجواءُ البيت الفاطميّ – العلويّ، أجواء عائليّة حميمة، وأجواء تربويّة راقية، فإذا كانت الخادمة (فضّة) تتعلّم دروس القرآن والفقه والعقيدة من السيّدة الزهراء (ع) ، فما بالنا بالأبناء (الحسنين) وبالبنت (زينب).

والثقافة -في حقيقتها- ليست كالعلم دروساً مجرَّدةً ومعلوماتٍ مستجمعةً، بل إنما هي محيطٌ وبيئةٌ ومناخٌ يتنفّس فيه الأبناءُ المحبّةَ والصدق والوفاء والإخلاص والتضحية، والتعاون وصور البرّ والإحسان والاحترام وغيرها. والطفلُ -بطبيعته- دقيقُ الملاحظة، شديدُ الحساسيّة والالتقاط، فإذا كان المَحضن الثقافيّ بهذه الدرجة من الرقيّ، كما في بيت فاطمة (ع)، فلنا أن نتصوّر كيف يكون تلاميذه، وكيف يكون خِرّيجوه؟!

 

3-         الناحية الروحيّة:

بيتُ فاطمة (ع) – كما يُمكن لنا أن نتصوّره- بيتٌ نقيّ وصالح وحضاريّ وثقافيّ، وخالٍ من أية شوائب وملوّثات، يتردد فيه ذكرُ الله لا على نحو الذكر اللساني فقط، بل على النحو العمليّ أيضاً. فالأولاد يعرفون قيمة “رضا الله” من كلّ عملٍ تمارسه الأمُّ أو يزاوله الأبُ، فتنمو لديهم روحيّة الساعي لطلب مرضاة الله في سائر أعماله. ولا يستمع أبناءُ البيت الى تلاوات للقرآن الكريم فقط، بل الى توضيحات وتفسيرات لمعاني الآيات وأبعادها الحركيّة (في بعض الأخبار أنّ فاطمة (ع) كانت إذا قرأت القرآن أجلست الحسن عليه السلام على حجرها الأيمن والحسين عليه السلام على حجرها الأيسر فينعمان بدفئها وحنانها وعذوبة صوتها الشادي بآيات القرآن الكريم). بل أكثر من ذلك، كانوا يستمعون لآيات القرآن تُتلى في بيتهم ويرونها صوراً حيّة متحرّكة، متمثّلةً في سلوك وأخلاق وتعامل أبويهم، وذلك هو أعظم دروس التربية على الإطلاق، وهو ما يُصطلح عليه بـ”التربية بالنموذج”!

 وهكذا عندما يجلس أبناء فاطمة (ع) بالقرب من محرابها ليستمعوا لأذكارها ودعائها وضراعاتها وتسبيحاتها وخشوعها، فيتعلّمون منها كيف يدعون للبعيد قبل القريب، وللجار قبل أهل الدار. وعلينا ألَّا ننسى أن كلا الأبوين على مستوى عالٍ من الروحيّة، مما ينعكس على روحيات الأبناء، فيصبحوا عارفين بالله منذ نعومة أظفارهم. ولذلك لا نعجب من قول الإمام الحسن (ع) عن عبادة أمّه الفريدة: “ما رأيتُ أعبدَ من أُمّي” (سير أعلام النبلاء، ص 126) وكلمة “أعبد” صيغة مبالغة، فكأنه استقرأ نساء المسلمين العابدات فلم يرَ فيهن من تعبد الله حقَّ عبادته مثلما تفعل سيّدة النساء.

4-        الناحية الأخلاقيّة:

الأخلاقُ سلوكٌ حيٌّ نابض، قبل أن تكون مفاهيمَ وتعاليمَ، فالاحترام بين الأبوين له أثرهُ العميق على الاحترام بين الأبناء، وهكذا في كلّ القيم والخصال الأخلاقيّة.

كانت عيون الحسن والحسين وزينب –عليهم السلام- أينما التفتت تجدُ الصدق والورع والتقوى والطهارة والزكاة والتزكيّة واللطف والمودّة، والإنسانيّة العالية، والتواضع الجمّ، وجميع مكارم الأخلاق، فلا تحتاج الأم أن تقول لابنها: كنْ صادقاً.

فإذا كانت تصدق القول مع زوجها وأبيها وأبنائها وجيرانها والقريبين منها، انغرس ذلك في وعي الطفل ووجدانه. لأنّ الصدق موقف، والعفو موقف، وكظم الغيض وإمساك الغضب موقف، والاحترام المتبادل موقف، فإذا عاش الأولاد في هذا الروض الأخلاقيّ المفعم بالروائح الزكيّة، فإن زهور أرواحهم وورود قلوبهم تتفتَّح مع كلّ نسمة وبسمة وكلمة طيّبة وتحيّة أطيب.

5-        الناحية العاطفيّة:

حاجةُ الأولاد والبنات الى شحنات عاطفيّة مستمرَّة تقيهم “الحرمان العاطفي” حاجةٌ أساسيّة لا يستغني عنها أبناؤنا وبناتنا أبداً. ولو حرمناهم من عواطفنا لبحثوا عنها عند الأصدقاء الحقيقيين والافتراضيين، الصالحين والفاسدين، وعند المعلمين الأكفاء وغير الأكفاء، أو حتى عند الممثّلين والفنانين، أو عند كبار السنّ أحياناً، وقد ينحرفون لهذا السبب ويعانون نقصاً عاطفياً لا يملأ فراغه إلا البيت والأُسرة.

كانت السيدة فاطمة (ع) -كما في حديث الكساء- تخاطب الحسن والحسين (ع) كلاً منهما على انفراد عندما دخلا عليها وكان جدُّهما النبي (ص) عندها، كانت ترحّب بكلّ واحد منهما بالقول: “وعليك السلام يا قرّةَ عيني، وثمرةَ فؤادي”! وهذا أجمل وأرقُّ وألطف وأطيب ترحيبٍ يسمعه الابن من أحبّ الناس لديه.

ولذلك كثيراً ما تُحدث العواطفُ النبيلةُ والكريمةُ أثرَها في نفوس الأبناء فتخلق منهم شخصيَّاتٍ متوازنةً، والعكس صحيح. فالحرمان العاطفي قد يصنع منهم شخصياتٍ عنيفةً متطرّفةً، بل ومجرمة أيضاً.

6-        الناحية السلوكيّة:

مع ذلك، تبقى جميع النواحي السابقة مظاهرَ وشكليّاتٍ إذا لم تُترجم الى سلوك عملي واقعيّ مجسّد. ولذلك عاب القرآنُ الكريمُ على المؤمنين الازدواجيين مفارقة سلوكهم لأقوالهم: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف/ 3).

 كانت السيدة الزهراء (ع) حريصةً كلَّ الحرص أن تضع أبناءَها في الجوِّ النظيف، وفي الموقف المشرّف، ، وفي الميدان العمليّ، ليكونوا  هم أصحاب مواقف أيضاً.

وعندما قرَّرتْ أن تُلقيَ خطبةَ احتجاجٍ في حضرة الخليفة الأول، يذكر التاريخُ وسيرتُها أنها اصطحبت ابنتها زينب (ع) معها، وقالت لها: ستقفين ذات يوم موقفاً كهذا، فتعلّمي الدرس جيداً. وقد وقفت زينب (ع) بعد واقعة كربلاء في حضرة عبيد الله بن زياد ويزيد، وألقت خطبها الصاعقة هناك، فكانت كأنها تُفرغُ عن لسان أمّها وأبيها أدباً وعزّةً وشجاعةً. فقد تعلّمت كيف تَثبت في مواقع الاهتزاز، وتصمد في مواطن الارتجاج، وتتماسك في زمن التزلزل، تماماً كأمّها فاطمة (ع)، وبالتالي فمن كان مع الحقّ والحقّ معه، لا يُبالي حتى ولو بقي وحيداً، لأنّ الله َمعه!

 

نتائج هذه التربية:

لو أردنا أن ندرس دراسة مقارنة بين ما تلقَّاه الأبناء الثلاثة (الحسن والحسين وزينب عليهم السلام) عن أمّهما فاطمة وأبيهما علي -عليهما السلام-  لرأينا أن كرم ذلك البيت الذي تصدّق بأقراص خبز الشعير على المسكين واليتيم والأسير في  ثلاث ليالٍ متوالية، انعكس على سلوك الأبناء في عطاياهم وصدقاتهم وهباتهم للمعوزين والمحرومين والمحتاجين. فالخصال الحميدة، ومنها الكرم، لا تُورّث عبر الجينات فقط، ولا تُدرّس في الفصول فقط، بل تُغرس غرساً في  نفوس الأبناء، وتُعاش وتُمارس  وتتحوَّل مع الأيام الى مَلَكة.
وذلك ما نلاحظه في أخلاقيّة الحسنَيْن -عليهما السلام- في تعاملهما المؤدّب المهذّب مع ذلك الرجل المسنّ الذي لم يكن يحسن الوضوء، وكيف تعاطيا معه بأسوب حسن محبّب دعاه الى الاعتراف بأنَّ وضوءَهما أصحّ من وضوئه.

بل غاية ما يمتلك نواصي إعجابنا من آثار هذه التربية الصالحة، هو هذا التسليم التام لله سبحانه وتعالى، فقول الحسين (ع) يوم عاشوراء: “رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين” (أعيان الشيعة، ج 1، ص 539) يلخّص لنا كيف أنّ رضا الله غاية الغايات عند أهل هذا البيت السياديّ العريق، والأسرة المؤمنة الفاضلة التي كلُّ فردٍ فيها سيّدٌ بذاته.

المرأة المعيار:

على ضوء ذلك كلّه، يطيب لنا أن نصف السيّدة فاطمة الزهرء (ع) بـ”المرأة المعيار” تماماً كما أوصى النبي (ص) عمار بن ياسر (رض) بملازمة علي (ع) على طول الخطّ لأنه يمثّل المعيار. فعليّ (ع) مع  الحق والحق معه يدور معه حيثما دار. وكذلك لا يكفي أن نقول للمرأة اليوم وفي كلّ عصر: “فاطمة قدوة” أو “مثل أعلى”، بل هي معيار نقيسُ به قرب وصلاح المرأة (المربّية) و(المعلّمة) و(المثقّفة) و(المتفقّهة) و(الحضاريّة) و(الصادقة) و(العاملة) و(المخلصة) من خلال النموذج الفاطميّ، وكم هي قريبة أو بعيدة عن هذا المعيار، لاسيما في تربيتها وبنائها لشخصيّات أبنائها.

أما المرأة الأنوثة، والمرأة الجاه، والمرأة المنصب، والمرأة الثروة، فعناوين اعتبارية سريعة الزوال، ولا تمثّل قيمةً بحدّ ذاتها.

فاطمة الزهراء (ع) هي المعيار لأنها مدرسة تربويّة جامعة شاملة كاملة، وصادقٌ هو الشاعر الذي قال:

الأمُّ مدرسةٌ إذا أعددتَها

أعددتَ شعباً طيّبَ الأعراقِ

ونحن إذ نعيش في هذه البلاد والمغتربات، وما فيها من مظاهر مادّية خلاّبة، وصخب، وموضات وصيحات ومغريات، تجعل من المرأة قطعةً من قطع الأثاث، ولوناً من ألوان الزينة، وشيئاً يُحتسب مع الممتلكات، فما أحوجنا أن نشدّ أنظار نسائنا وبناتنا وأخواتنا الى “المرأة المعيار” والأسوة الحسنة في تربية البنين والبنات.

وإذا كان علماء التربية يقولون: علينا أن نربّي أطفالنا قبل عشرين سنة من ولادتهم، فإنَّ المقصود هو الالتفات الى التربية السليمة التي رُبّيت عليها البنت لتصبح أُمَّاً صالحة في المستقبل.

وكم كان استنكار الإمام الخمينيّ (رحمه الله) شديداً على الآباء والأمَّهات والمعلّمين والمربّين والخطباء والإعلاميين، عندما سمع فتاةً مسلمةً تُسأل -في ذكرى الزهراء (ع)- عن قدوتها من النساء فتُسمّي ممثلةً لعبت دور البطولة في إحدى المسلسلات اليابانية، وتقول إنها قدوتها! فكان يوصي بمزيد من تسليط الضوء على شخصيّة الزهراء (ع) لتقتدي بها بناتنا ونساؤنا اقتداءً صالحا.ً

ولا يخفى على أحدٍ أن في مجتمعنا نساء صالحات ومخلصات قد أخذن من سيّدة النساء بعض أخلاقها وتعاليمها، وإنّي لأتذكّر أنني سألتُ أحد الأشخاص لماذا سيارته قديمة وسيارة زوجته من موديل أحدث، فقال: كم ذلك قليل بحقّ من ضحَّت وربَّت ورعت وعلَّمت أولادي أصول دينهم وأخلاقهم ولغتهم العربية، وكانت تتابعهم في الصغيرة والكبيرة، حتى دخلوا أرقى الجامعات وهم ملتزمون بأحكام دينهم ولله الحمد، ألا تستحق هذه المرأة الصالحة التكريم و التمجيد؟!

سيّدة البيت:

إنّ مصطلح “ربّة البيت” أو “سيّدة البيت”، الذي يشيع استخدامه هذه الأيام، لا يصحّ إطلاقه على المرأة التي تُهمل مسؤولياتها. فهذا المصطلح وسام لا يُمنح ولا توصف به إلا المرأة التي عرفت دورها وأحسنت أداءَه في “حسن التبعُّل”؛ أي حسن التصرّف في الحياة الزوجيّة، وحسن تربية الأولاد، وحسن التعامل مع الآخرين الذين يمتُّون لبيتها وأُسرتها بعلائق رحم أو جوار أو صداقة.

نعم، إنَّ السيّدة فاطمة الزهراء -عليها السلام- هي السيّدة الأولى بلا منافس، لأنها “المعيار” و”المثل الأعلى” لكلّ سيّدات المجتمع اللواتي يُدرنَ البيوتات الصالحة والأُسر الكريمة إدارةً ناجحةً، ولكلّ العاملات في أي مجال، والمحافظات على دينهنّ وتقاليدهنَّ الإسلاميّة الرفيعة، لا عارضات الأنوثة، والفتنة والأزياء والمتبرّجات في الشوارع والأسواق، ولا المسترجلات أو العاطلات عن العمل.

Contact Us

We're not around right now. But you can send us an email and we'll get back to you, asap.

Not readable? Change text. captcha txt

Start typing and press Enter to search