كيف نحافظ على النعم لئلا تُنتزع منّا

كيف نحافظ عليها لئلا تُنتزع منّا؟!

———————————————–

محطّات النعم ومنازلها:

لنعم الله تعالى- الظاهر منها والباطن-، الماديّ منها والمعنويّ، منازلٌ ومحطّات، فقد تنزل في هذا المنزل، وتحطّ في هذه المحطة، وتقيم هنا أوهناك، إن هي وجدت ترحيباً حارّاً وحسن استقبال، هي كالضيف الكريم يجدر بنا أن نحسن عنايته، ويجب الحفاوة به وإكرام مثواه.،أمّا إذا كان العكس، فلم تجد النعمة بصفتها ضيفاً كريماً، الاعتناء والاهتمام المطلوبين بها، أي لم تلقَ الذي يقدّرها خيرَ تقدير، فهي لا تفرض نفسها على من تنزل أو تحطّ عنده وهو جاهل بقيمتها، زاهد بمكانتها، هي ضيف خفيف ،سرعان ما يرحل الى مضافة أخرى ، الى حيث يجد الأحضان المفتوحة والوجوه الباسمة، والنفوس الراضية، والى حيث تُثمّن ويُقدِّر قيمتها من اختارته مضيّفا يُحسن الضيافة ويحترم ضيفه مادام هو مقيمٌ في ساحته أو رحابه

نِعم الله وأفضالُه ، أشبه بالجار النبيل، فقد لا يغيّر الانسانُ دارَه لأنه يرى أن جيرته الصالحة لا تعوّض ، وأن جيرانه الطيبين لا يُستبدلون نظراً لاحترامهم وتقديرهم ومعاهدتهم له، ولن يرضى أن يبيع داره حتى لو أعطوه ضعف سعر
السوق، وهذا الذي حصل مع جار للإمام الصادق(ع)، فقد عرض عليه مشترٍ أن يشتري داره بالثمن الذي يحدده هو، فقال جار الصادق لمن يريد شراء بيته: هذا ثمن الدار ولكن من يعطيني ثمن الجوار ( يقصد أن جيرة الامام غير قابلة للعوض والتعويض) فلما وصل الخبر الى الإمام(ع) سرّ بموقف جاره، وقال لاتبعها وإذا احتجت الى شيء فنحن نتكفّله لك.

هكذا هي نعم الله صغيرها وكبيرها، ليس هناك معيار تُوزن به، ولا تسعيرة تُسعّر بها، فقط أولئك الذين يعرفون (المُنعِم) يعرفون قيمة ( النعمة)، ومن يعرف النعمة حقّ المعرفة فيحترمها ويحافظ عليها ويشكرها، فهي بالنسبة له كجار الامام الصادق لا تقبل أن تتحوّل الى مكان آخر! ومن ثَمّ، فالنعمة الربّانيّة لا تحبّ تغيير الديار والمنازل والمحطات، إنها تحبّ الاقامة الدائمة ما دامت مقدّرة ومحترمة ومشكورة، أي موظّفة توظيفا سليما بما يُرضي الله وينفع الناس،فإذا أهينت أو احتقرت أو استصغرت، فإنها عزيزة النفس لا تقبل الذلّة والمهانة، فما تلبث أن تغادر محطّتها تلك الى محطّة أو مقر إقامة يُكرم مثواها ويحتضنها ويشيد بها ويثني على من أنعم بها عليه.

إرتحال النعم

——————

إذن نحن منْ يحافظ على إقامة النعمة، ونحن من يهدرها أو يهجرها، ولأنها جرّبت جوار بعض الناس فأساءوا اليها، فإنها قّلما تعود لمجاورتهم مستقبلا. في الحديث المروي عن النبي (ص) ((أحسنوا مجاورة النعم، لا تملّوها ولا تُنفّروها، فإنها قلّما نفرت من قوم فعادت اليهم)) ( بحار الأنوار/ المجلسي. ج74.ص173) ونفور النعم لا يكون إلا بكفرانها وعدم شكرانها، فإذا سخّرت النعمة في الحرام والممنوع نفرت من صاحبها لتبحث عن صاحب أمين يكرمها ولا يهينها .

في الرواية عن الامام علي (ع) ((أحسنوا صحبة النعم قبل فراقها، فإنها تزول وتشهد على صاحبها بما عمل فيها)) (علل الشرائع.ج2.ص. 464) ومفهوم (الصحبة) هنا كمفهوم الجيرة هناك، فالصاحب الذي يخون أو يخذل صديقه، لا يتوقع منه البقاء على صحبته وملازمته، ذلك أن الصاحب المحترم يبحث عن صاحب محترم مثله. وترجمة
الوصية العَلويّة هي هذه: صاحبوا نعم الله صحبةً كريمة، فيها احترام وفيها تعظيم، وظّفوها في ما ينفعكم وينفع الناس من حولكم،، ضعوها في مواضعها السليمة الكريمة، وإلاّ كانت شاهدة عليكم بالاستهانة والتفريط.، ويصوغ (ع) مقالة النبي (ص) بعبارة تحذيريّة أخرى ، حيث يقول ((إحذروا نِفار النعم، فما كلّ شارد بمردود)) (نهج البلاغة .قصار الحكم 246) . فالنصوص تتظافر على أن النعمة لا تستقر في مكان يُستهان بها فيه، وهي دائمة البحث عن مقر إقامة يحسن صحبتها وجيرتها.

عمّال اللّه

————

جاء في الأثر عن الامام علي (ع) قوله (( إنّ لله عباداً يختصّهم الله بالنعم لمنافع العباد، فيقرها في أيديهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم، ثم حوّلها الى غيرهم)) (نهج البلاغة/الحكمة422)،فكأن الله يوظّف صنفا من عباده
(من الناس) لينفعوا بما وهبهم الله من نعم غيرَهم ممن هم بحاجة إليها، هؤلاء هم الموفّقون حقّا، هم الأوفياء حقّا، فنعم الله عندهم بمثابة ودائع وأمانات ، وهم يتولون إيصال الأمانات الى أهلها، فيوزّعون معوناتهم على الفقراء ومن هم بحاجة اليها، هم وكلاء في المؤسسة الربّانيّة الكبرى التي تضع الانسان أيّ إنسان هدفاً لخدمتها، هم (وسطاء) ينقلون نعم الله أو ما يتاح منها، الى موارد الحاجة من المعوزين والمعسرين

هم – على تعبير أحد العلماء الأجلاّء- أشبه بالحمّالين أو الشيّالين، مهمتهم كمهمّة (ساعي البريد) يوصلون الميسور من النعم الى أصحاب الاستحقاق، ويرون أن هؤلاء هم المتفضّلون عليهم لأنهم منحوهم فرصة خدمتهم في سبيل الله. ولنا أن نتصوّر المهمّة الجليلة التي يضطلع بها المحسنون من الناس، كم هي شريفة وعظيمة
وكريمة ولا تقدّر بثمن، وكلّما أدرك الانسان الصالح أنه مُنتَدب من قبل الله تعالى لأداء مهمّة من هذا النوع، يطفح سرورا، لأنه يرى أنه موضع اختصاص لطف الله ورحمته وعنايته

نظرة على خارطة النعم:

————————–

ولو تأمّلنا في نعم الله تبارك وتعالى لرأينا أنها موّزعة على نحو استيعابي لكافّة احتياجات الفرد والمجتمع، فلا يتبادر الى الذهن عندما نسمع كلمة (نعمة) أن المراد ( النعم الماديّة الحسّيّة فقط) بل عموم النعم ماديّها ومعنويّها،
وأهمّها:

 1 – الطاقات:

—————-

اي القدرات الذاتيّة والمواهب الربّانيّة المستودَعة عند الانسان مما يعينه على أداء المسؤوليات، وقضاء الحوائج، وإسداء الخدمات، كالقوّة البدنيّة، مثلما سخّر موسى (ع) فتوّته في إعانة بنات شعيب على السقي لأغنامهن ( ربّ إني بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين) (القصص/17) وهذا هو الذي قصدناه في حسن مصاحبة ومجاورة النعم، فالقوّة البدنيّة ليس للاعتداء على الناس وتركهم صرعى، وإنما ليساعد بها القويّ الضعيف. وأيضا القوّة العقليّة المسخّرة للعمل والنفع العام، كما أعان (ذو القرنين) (ع) الأمة المستضعفة التي كان يَغير الأعداء
عليها بين حين وآخر في بناء سدّ منيع يقطع دابر تلك السطوات والغزوات.

2 – المواهب:

————–

وهي العطايا الإلهيّة المميزة التي يتفوّق بها صنف من الناس على غيرهم، كالمواهب العلميّة والفكريّة والمعرفيّة والثقافيّة والفنّية، والتي تأتي عن طريق (المكرمة والتكريم) لأبوين صالحين ، أو عن طريق هداية الصالحين العاملين
المجاهدين الى إبداعات واختراعات واكتشافات تزيد في سعة عقل الانسان. وتعمر بها الأرض ويعمّ الخير والأمان.

فليست مريم (ع) هبة الله تعالى لأمّها الصالحة فقط، بل كل فتاة صالحة أو ولد صالح هو هبة ربّانية لوالديه ولمجتمعه، وكل موقع يستطيع الانسان أن يعمل ويخدم فيه بحريّة، فهو(نعمة) وهبة من الله المنّان، وهكذا في سائر المواهب والعطايا.

 3 – الاختصاصات والخبرات

———————————-

وهي وإن كانت إكتسابيّة، لكنها تصبح نِعما مشكورة عندما تُوظّف في الصالح العام، وفي أي حقل من حقول الحياة يسدّ حاجة من الحاجات التي يتطلّع الناس لسدها في تعليمهم وصحّتهم وغذائهم ورفاهيتهم وأمنهم. وإذا عانى المجتمع نقصاً في إحداها ولم يُملأ الشاغر ، ولم يتطوّع الى سده بعض الأكفاء، تحمّلوا الإثم عند الله، وهذا ما نصطلح عيه بالفقه ب (الواجب الكفائي)

4 – الأموال والثروات

———————–

فنعمة المال وإن جاءت نتيجة الكدّ والجهد والتحصيل، إلا أنها رزق من رزق الله الذي يقول في كتابه الكريم (آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير) (الحديد/7) ولو تأمّلنا في
عطايا الله ومواهبه كلّها ، وليس المال وحده، لرأينا أن تلك العطايا ( أمانات) و(ودائع) و(إعارات) ولابد من رد الامانات الى أهلها، بإيصالها الى مستحقيها، أي باستخراج الحقوق التي تغطي حاجة المحتاجين ( وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) ((الذاريات/19)

5 – الخدمات

—————-

سواء أكانت خدمات إنسانيّة ماديّة في الاشتراك في عمل طوعي أو نفعي فيه خدمة ومصلحة للمجتمع، أم خدمات معنوية في تقديم النصح والمشورة والدلالة على الخير، والمساهمة في المشاريع الخيريّة كلّ بحسب قدرته واستطاعته، فإنّ مقدّم أي خدمة إنسانيّة من غير مقابل هو (عامل من عمّال الله)، بل إن الذي يُحسن خدمته للناس من خلال موقعه وإن تقاضى أجراً فهو (خير الناس) لأنه انفعهم، ولأن قيمته تتحدد بما يُحسنه وما يقدمه من صنيع وإحسان.

الشكر العمليّ

————-

يصنّف علماء التربية والأخلاق الشكرَ باعتباره اعترافاً بالجميل، وامتنانا من المنعَم عليه الى المُنعم، الى: (شكر لفظي لساني)، والى (شكر قلبي مضموني)، والى ( شكر عمليّ حركيّ)، وأفضلها الثالث بما أشار اليه تعالى في قوله عن شكر آل داوود ( إعملوا آل داوود شكرا) ( سبأ/13) والعمل شكرا يمكن تلخيصه بأنه وضع النعمة في موضعها المناسب، فإذا وضعنا ما نملك من نعم الطاقات والمواهب والقدرات والخبرات والاختصاصات والثروات في خدمة الناس، في تلبية احتياجاتهم، في حلّ مشاكلهم، في التعاون معهم على البرّ والتقوى، على التخفيف من ضروب وأشكال معاناتهم، وفي توفير سبل حمايتهم والحفاظ على سلامتهم، والمحافظة على أخلاقهم ودينهم وهويتهم، وفي تنميتهم وترقيتهم وتهذيبهم وتربيتهم وتحسين معاشهم، نكون قد شكرنا جيراننا واصحابنا من النعم شكرً عمليّا، الأمر الذي يزيد ويبارك وينمّي ويزكّي تلك النعم، وذلك قوله تعالى (وإذ تأذّن ربّكم لئن شكرتم لأزيدنّكم) (إبراهيم/7)

إنّ النعمة لتزداد وتتسع رقعتها وتمتد آثارها، كلّما كان صاحبها كريما محسنا منصفا عوّاداً على الناس بما لديه من حصص الخير والعطاء. وإنها لتنحسر وتنسحب من ساحة البخلاء والأشحّاء والقابضين أياديهم وهم قادرون على المنح والصلة، ذلك أنّ (قانون الاستبدال) القرآنيّ قانون فعّال لا يتوقف عن إصدار حكمه بالذين يتخلّفون عن أداء مسؤولياتهم إزاء ما يتمتعون به من نعم. والى هولاء وكلّ ُمحجم ممتنع عن الإعانة على الخيريشير قوله سبحانه( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) ( محمد/38) وبمعنى آخر، فإنّ شرط التوظيف أو (الانتماء) الى المؤسسة الربّانية الكبرى التي تفيض بخيرات نعمها على مجتمعها، هو أن يكون أحدنا على أهبّة الخدمة، وتلبية حاجة المحتاج، وإعانة الضعيف، وداعما للقوّة الصالحة بقوّة نوعيّة وإضافية ترفدها، وإلاّ إذا منعنا، وأغلقنا الباب، وحرمنا العامل الفاعل، ونهرنا اليتيم والمسكين والسائل، فإننا نقرأ ( فأماّ اليتيم فلا تقهر. وأمّا السائل فلا تنهر. وأمّا بنعمة ربّك فحدّث)
(الضحى/9-11) قراءة أقوال لا قراءة أعمال.

رُسل الله إلينا:

—————-

مهمة المختصّين من عباد الله بنعمه، ووظيفة المختارين لنفع عيال الله، سواء إخوانهم في الدين أو نظرائهم في الخلق هو (رفع) أو (تقليص) وتخفيف معاناتهم ما أمكنهم ذلك، فلا يكلّف الله نفساً إلا وسعها،، ويزداد عبء وثقل المسؤوليّة في أوقات الأزمات والنكبات والأوبئة ونقص الموارد والكوارث والمصائب والمصاعب، كما يحصل اليوم بالنسبة لإخواننا وأهلينا في لبنان، حيث الازمة الاقتصاديّة الخانقة المتفاعلة التي تلقي بظلالها على أكثر اللبنانيين ممن تثقل الأزمة كواهلهم أكثر مما هي مثقلة فعلاً، وخير الدعم والعون والخدمة في ظروف كهذه ما كان تطوّعاً ومبادرة وتبرّعا وإسنادا من غير إلجاء الواقعين تحت ضغط الأزمة الى ان يرجوا ويتوسلوا ويلحّوا في طلب نجدتهم وإسعافهم

إنّ السائل المحتاج عندما يقصدك لقضاء حاجته وهو على علم أنك لن تردّه خائبا، هو رسولُ الله اليك، وكأنه تعالى يدلّه على عمّاله المختصّين بقضاء حوائج المحتاجين، ويقول له اذهب الى عبدي فلان وستلقى عنده حاجتك، وهذا هو الذي تعلّمناه في مدرسة الأئمة من أهل البيت (ع) حيث ما كان يأتيهم سائل إلاّ ورحّبوا به أجمل ترحيب واعتبروه رسولَ الله إليهم، وأنه لم يأتِ ليطلب حاجته فقط وإنما جاء يحمل إليهم زاد الآخرة أيضا عندما عرض يوسف الصدّيق (ع) خدماته لإنقاذ الأمّة المصريّة من أزمة اقتصادية حادّة، جاءهم رسولاً من عند الله، لكنه وضع خبرته في المجال المالي والحقل الاقتصادي لمجتمع ربما كان لا يحمل نفس معتقده الدينيّ، رأى أن خير طريق للإيمان هو أن يحسن مجاورة النعمة التي أنعم الله بها عليه، فأنقذهم من موقف عصيب وأزمة خانقة وكرب عظيم، فوجودوا فيه رحمة مهداة من الله، وهكذا الحال بالنسبة لأي نعمة منّ الله بها علينا، يمكننا أن نسخّرها في طريق الدعوة الى
الله من غير لسان يصدع بالدعوة !

إن قول عيسى ، كما في القرآن ( وجعلني مباركاً أينما كنت) (مريم/31)

يعني – في الترجمة العمليّة للنصّ- أن كلّ مواهب عيسى الربّانيّة مسخرّة لنفع الناس (المبارك تعني النفّاع)، وموضوعة تحت خدمتهم، وما مداواته للأمراض المستفحلة والمستعصية في زمانه الا نوع من أنواع حسن مجاورة ومصاحبة النعمة، لذلك جدير بالالتفات الى أنّ نِعم الأنبياء عموما لم تسلب منهم قطّ، وبقيت تؤدي فعلها ومفعولها حتى آخر حياتهم، لأنهم خير النماذج التي تحسن الى نعم الله بتوظيفها في خطّ مرضاته.

قصّة ذات عبرة

—————-

أعرف أحد الاصدقاء كان قد دخل الى قصر فخم لأحد الأثرياء، وراح ذلك الثريّ يناقشه في لا جدوى الانفاق على الفقراء، وأن عليهم أن يعملوا بأيديهم ليكسبوا قوتهم أو عيشهم من عرق جبينهم، فإعالتهم ليست من مسؤولية الأغنياء، وإنما يتوجب عليهم هم أنفسهم أن يعيلوا أنفسهم بأنفسهم ، معتبراً أن المال الذي لديه، ولدى الأثرياء عموما، هو حصيلة تعبهم وكفاحهم، فلم يقدّم الانسان نتاج عمله لغيره وهو الذي عانى في حصاده، وكأنه كان يردد قوله تعالى على لسان ممن كانوا يمتنعون من الانفاق بحجة أن إغناء الفقراء ليس مسؤوليتهم وإنما هي
مسؤولية الله تعالى ( وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لويشاء الله أطعمه إن أنتم الا في ضلال مبين) (يس/47) ،وما هي الا أيام حتى مات ذلك الثريّ، فوقف صاحبي على قبره، وقال في نفسه: لو أنه أنفق حجراً من أحجار قصره المنيف في نفع الناس ومعالجة معاناتهم، أما كان خيرا له من أن يتركه وراءه من غير أن ينتفع به في ما هو مقبل عليه ومدخر له؟ .

وحال هذا الغني حال كثير من الناس الذين ينسون أو يتناسون أنهم سيموتون ذات يوم، وأن (الكفن) – كما يقال في الأمثال- بلا جيوب، وأن الحسرة والندم على عدم التصدق ترافق الانسان الى حياته الاخرى . في الخبر عن النبي (ص) (( يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك يابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت)) وفي رواية ( فأبقيت) ( رواه مسلم في صحيحه) فما دام كلّ شئ (زائل) و(متزلزل) ولا يبقى الا ما تصدّقنا به طلباً لمرضاة الله، فالبخل لماذا!

وفي رواية عن الامام الصادق (ع) ((لا إزلة لنعمة إذا شُكرت، ولا إقامة لها إذا كُفرت )) (جواهر العقول. وصال حمقة.ص434)

وثمة رواية عن الإمام الحسن (ع) يضعها في صيغة قاعدة أو قانون أن الانفاق يزيد في منسوب النعم، حيث يقول ((كلّما شكرت نعمة، تجدّد بالشكر لك أعظم منها)) (المصدر نفسه.ص435)

حاجات الناس الينا، نعمُ الله علينا:

————————————-

ويجمع الامام الحسين (ع) معظم الروايات السابقة في قالب روائيّ رائع حيث يطرح مفهوماً إسلاميّا مجتمعيّاً حضاريّا بقوله ( إعلموا أنّ حوائج الناس اليكم من نعم الله عليكم، فلا تملّوا النعم فتتحوّل الى غيركم، ومن نفّس كربة مؤمن فرّج الله عنه كرب الدنيا والآخرة )(بحار الأنوار.ج78.ص127) ولسنا بواجدين في أي نظام تربوي تنمويّ مؤسّسي تحفيزاً أرقى واغنى من هذا، حيث تتحوّل (حاجة المحتاج) الى (نعمة) والنعم عند عقلاء الناس تُشكر ولا تُكفر.

بهذا المنطق يتغيّر الموقف إزاء المحتاجين والمحرومين واهل الابتلاء، فبدلاً من التأفّف والنفور والانزعاج منهم أو طردهم، يصبحون موضع حفاوة وتقدير كونهم رسلَ الله الى المختصّين بقضاء حوائجهم، ولأن حاجاتهم (نعم) بحدّ ذاتها،، وأي تعامل سلبي أو مقلوب يعاكس ذلك ،، ربما يعامل بموجب (قانون الاستبدال) سالف الذكر.

امّا إقامة النعمة بسبب حسن مصاحبتها وحسن توظيفها فخير ما يعبّر عنه قول المولى عزّ وجل ( للذين أحسنوا الحسنى، وزيادة ولا يرهق وجوهم قتر ولا ذلّة أولئك اصحاب الجنّة هم فيها خالدون ) (يونس/26)

لفتة نظر:

———-

إنّ التوصيات النبويّة والعلويّة والحسنيّة والحسينيّة والصادقيّة في (الاحسان لجيراننا من النعم) لا تتحدث بالتأكيد عن النعم الماديّة وحسب، إذ ما دمنا في بحبوحة النعم الماديّة والمعنويّة فالخطاب أو التوصية شاملة للاثنين.

فالأب والأم ( الوالدان) نعمة من أكبر نعم الله علينا، وعلينا أن نحسن مجاورتهما في البرّ بهما، والا فما اسرع أن نفارقهما، فموقف برّ واحد نقفه منهما، خير من سفح دموع حارة غزيرة نسكبها على تراب قبريهما

والزوجة الصالحة ( وكذا الزوج الصال) نعمة أيضا، وإذا لم نوفّق للإحسان لصحبة الشريك ومساكنته ومعاشرته ومجاورته، فقد نفقده في أية لحظة، ونبقى نؤنّب ونلوم أنفسنا أننا لم نحسن مجاورة نعمة الزوجيّة حقّ الاحسان، ووردة واحدة نقدمها للشريك خير من أكاليل الورد نغمر بها ضريحه

و(الصديق الصدوق الصالح) نعمة، فإذا لم نحسن مصاحبته بالتي هي أحسن، فقد يفارقنا الى غيرنا، هذا إذا لم نفقده بالانتقال من هذه الدار الدنيا.فلا نلقى له مثلا

و(العالم الربّانيّ) و( المربّي الصالح) و(المثقف الواعي) و( المرشد الأمين).. كلّ هؤلاء وأمثالهم نعم، فإذا لم ننتفع بعلمهم ووصاياهم ونصائحهم وتوجيهاتهم، فما جدوى أن نكتب ألف قصيدة حبّ تعبّر عن احترامنا وتعظيمنا لهم عند رحيلهم الى عالم البقاء !

وجودنا في هذا (المغترب) أو (المنقلب) من الأرض نعمة أيضا، يفتقدها ويحسدنا عليها من يعانون الكبت والاضطهاد وشظف العيش والحَجر في بلدانهم، ومالم ننتفع من أرض الفرص هذه في بناء عقولنا وتقوية نفوسنا وتنمية ثقافتنا وتجاربنا وخبراتنا، يكون حالنا كمن هو قرب نبع ماء، وهو يصيح العطش العطش.

ختاما نقول، إن الاحسان الى النعم، هو إحسان الى الغير، لكنه في المحصّلة النهائيّة إحسانٌ لأنفسنا يوم لا ينفع مال ولا بنون ، لو كنّا نعلم ، يقول تعالى ( و ما تقدموا لأنفسكم من خيرتجدوه عند الله) (البقرة/110).

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

Contact Us

We're not around right now. But you can send us an email and we'll get back to you, asap.

Not readable? Change text. captcha txt

Start typing and press Enter to search