كيف نُحيي أمر أهل البيت عليهم السلام؟

مجالس المذاكرة ومدارسة العلم:

——————

       عن الإمام الصادق -عليه السلام- أنه قال للفضيل بن يسار: تجلسون وتتحدَّثون؟ (المقصود مجالس وعي وبصيرة وعلم وتثاقف)، فقال الفضيل: نعم، فقال الإمام الصادق: إن تلك المجالس أحبُّها، أحيوا أمرنا، فرحم الله من أحيا أمرنا، فإن من جلس مجلساً يُحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب.

والرواية مهمة وتشتمل على عدة إشارات حيويّة، هي:

1-ضرورة عقد مجالس العلم والمذاكرة، وتلاقح الأفكار، والتذكير بالأولويات و بالمسؤليات.

2-هذه المجالس لها خصوصيّة، هي ليست مجالس ثرثرة وطق حنك، وسهرات فارغة، هي لقاءات مثمرة.

3- قيمة المجالس العامرة بالعلم أنها تعتني بأمّهات القضايا ذات الشأن بأمور المجتمع، ومعالجة مشاكله، والعمل على تطوير أدائه وتنمية عطائه، هي ليست مجالس مفاخرة أو مبارزة علميّة، ليست للمباهاة، كلٌّ يُبرز فيها عضلاته، هي من نوع العلم للحياة، لا العلم للعلم.

4-قول الإمام (ع) (أحبّها) إشارة الى أن هذه المجالس (نوعيّة) و(إثرائيّة) و( تنمويّة) هي مجالس تواصٍ بالعمل على ضوء تعاليم المدرسة الإماميّة، وليست تثقيفيّة فقط.

5- والوصيّة ب (إحياء أمر أهل البيت) وصيّة بإحياء أمر الإسلام، إذ ليس هناك إثنينية بين الأمرين، بل هما أمر واحد.

6-وأما الربط بين (إحياء أمرهم (ع) وبين (إحياء النفوس والقلوب) فذلك لأنّ العلم حياة القلوب وثراء العقول.

المراد بإحياء الأمر:

———–

      السؤال المحوريّ هنا: ما هو المقصود بطلب الإمام الصادق (ع) من شيعته وأتباع مدرسته، ليس الذين كانوا على عهده فقط، بل من يصلهم خطاب الإمام من المريدين على طول الزمن: ما مراده من (أحيوا أمرنا)؟

    هل هو الاكتفاء بإحياء مناسبات ولاداتهم بالأهازيح والأناشيد وقصائد المدح والثناء؟ هل هو مجرَّد الاهتمام عاطفياً بأهل البيت (ع) كما هو الشائع، بحيث نُقيم لهم مجالس العزاء ونسرد المصائب التي تعرَّضوا لها، ونتذكر مآسيهم وما لاقوه من اضطهاد ومعاناة؟ وهل إحياء أمرهم (ع) هو مجرَّد سرد تاريخي لتضحياتهم ولما فعلوه وقدَّموه في سبيل الله من خلال المظاهر العاطفية التي نقوم بها من ولطمٍ ومسيراتٍ ورفعٍ للرايات وإظهار السواد ومظاهر الحزن والحداد والألم؟

      مما لا شك فيه أنَّ لهذه المظاهر أهميةً كبيرةً، فلها الفضل الكبير في التعريف بأهل البيت –عليهم السلام- وفي التعريف بالظلم الشديد الذي تعرّضوا له وتعرّض له أتباعهم، ولهذه المجالس الفضل الأكبر في إثارة الحماسة في نفوس الجماهير الحسينية والدعوة الى مبادئ ثورة الإمام الحسين –عليه السلام- وجلب المودَّة والمحبَّة لآل بيت رسول الله، فهي تُعرّف المسلم بهذه التضحيات وتدعوه للوقوف موقف أهل البيت (ع) في الالتزام بالمبادئ مهما غلت التضحيات، وبالقيام ضدَّ ظلم الطغاة والفاسدين والمستكبرين والمنحرفين.

     لقد بيّن الامام علي بن الحسين(ع) حقيقة الموقف العاطفي من الدعوة الى (الموادّة في القربى) بأنها ليست حبّا شخصيّا، كما يحبّ شخصٌ شخصا آخر على هذا المستوى من الشعور فقط، وإن كان الأئمة من أهل البيت يُحبَّون لذواتهم الكريمة، ونفوسهم الزكيّة، وخصالهم الفريدة، وعلومهم القيّمة، لكنه قال (( أحبّونا حبَّ الإسلام)) ،فكلّما أحب الانسان المسلم دينه ورسالته وهويته أكثر، كان قريبا الى أهل البيت أكثر، بل كان مندكّاً بإسلامه أكثر.

    وكما يعرف الجميع فإنَّ الشحن العاطفيّ، واستثارة الحماسة، وتحريك الحالة الوجدانية، له دور مهم في تهيئة النفوس والقلوب للنهوض من أجل الالتزام عملياً بالقيم والمبادئ الإسلامية لآل البيت عليهم السلام؛ قيم الحلم والعلم والعقلانية والمحبة والرحمة بالإنسانية، قيم الإيمان والتقوى والورع والإخلاص، قيم التحرك لأجل حقوق المضطهدين والمستضعفين والوقوف في وجه الطغاة والعتاة والفاسدين لتحقيق العدالة في الأرض.

مشكلة التعصّب المذهبيّ:

————-

      لكن ما يُؤسَف له أن بعض من يتناول الخطاب أو السيرة الإماميّة -بسبب ما تعرض له المذهب من نكسات عبر التاريخ، وحتى في زماننا هذا،  وما لاقاه أتباعه من قتل واضطهاد وإساءات واعتداءات من بعض المتعصّبين من المذاهب- أخذ يتمسَّك بهذه المظاهر المأساويّة، وبهذه الطرق التي تثير الأحقاد وتعمّق الجراح كردِّ فعلٍ غير محسوب النتائج، وراح يتشدَّد فيها أكثر فأكثر لتتحوَّل هذه المظاهر دون قصدٍ ووعي إلى الطريقة الوحيدة التي يتم عبرها إحياء أمر أهل البيت (ع). ليزداد الاعتقاد الخاطئ بأن إحياء أمر أهل البيت (ع) والوقوف في صفّهم وكسب مودّتهم وشفاعتهم ورضا الله سبحانه وتعالى هو بالقيام والمشاركة في هذه المظاهر أكثر فأكثر.

   وهكذا أخذت المجتمعات الشيعية، في علاقتها بأهل البيت (ع)، تنسى جوهر المسألة فتقصّر تقصيراً ثقافياً شديداً.

تصحيح المسار:

——–

     ولنلاحظ- بعين النقد والتقييم- ما الذي يغلب على مجالس إحياء أمر أهل البيت (ع) حالياً؟

    يغلب عليها تكرار السرد التاريخي المكرور والباعث على الرتابة والملل، فليس هناك الا ما آلت إليه الخلافة بعد رسول الله (ص)، واجترار مآسي آل البيت والمصائب التي حلّت بهم، والظلم السياسي الذي تعرضوا له، كما يغلب عليها إثارة العواطف ضدّ التصرّفات التي صدرت من بعض الصحابة والخلفاء، وتجد أنّ بعض القراء والخطباء يتحدثون عنها ويثيرونها وكأنها حدثت في الأمس القريب، وكأنَّ أهل السنَّة وأهل المذاهب الإسلامية الحاليين مسؤولون عمَّا حدث من قبل الأسلاف ومطالبون به!! لذلك فإن كل تصرُّفٍ حاقدٍ ضدَّ الشيعة يُربَط لزاماً بالسقيفة، ويُؤجج العواطف للحديث عن هذه الحادثة وما شاكلها من طرح المآسي التي حصلت لأهل البيت عليهم السلام في أزمنة غابرة. هذا ونحن نتلو الكتاب الذي حسم لنا الجدل الفارغ الذي يعدّ مضيعة للوقت والجهد الذي يؤدي الى تمزيق الصفّ و يفتت الوحدة، ويعين الأعداء على اللعب على حبال التناحر المذهبي، والاصطياد بالماء العكر، ويؤخر نهضتنا قرونا أخرى.يقول تعالى ( تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عمّا كانوا يعملون)( البقرة/134)

       لكنَّ ما يفوت أو يخفى على بعضنا أنَّ مثل هذه المبالغة في تناول سيرة آل البيت (ع) تُحدث تقصيراً وشرخا كبيرين تجاه تراثهم العلمي، وأحاديثهم القيّمة، وإرشاداتهم وحكمهم الرائعة. ناهيك عن أنها – أي هذه المبالغة أو الإمعان في حفر قبور الماضي- قد أضعفت التأثير الثقافي للمنبر الإسلامي الشيعي، حيث يستلم هذا المنبر حالياً عددٌ كبيرٌ من الخطباء الذين تخصَّصوا بطرح قضايا الماضي وإشكالاته ومشاكله وغابت عنهم تماماً قضايا الحاضر ومآزقه! لذلك هم يخترعون معّاركَ وهميةً وقضايا عاطفيةً لا تغيّر شيئاً في واقعنا المرير، بل تزيد في تعميق الهوّة وتوسّع في الفجوة، لأننا حين نخرج إلى هذا الواقع، إلى شوارعنا، إلى عالمنا الذي نعيش فيه، نجده مليئاً بالأزمات: أخلاقية، تربوية، قانونية، اجتماعية، اقتصادية… مع قلَّة نادرة من أهل المنبر الشيعي الذين يتحدثون عنها ويبثُّون الوعي المناسب حولها في أذهان أبناء المجتمع.

تحجيم وتقزيم العظيم!

————-

  إننا لو أردنا أن نناقش أطروحاتنا وأساليب تناولنا في عرض السيرة النبويّة والإماميّة، لكنا إزاء المشاهد الآتية:

  • لقد استغرقنا في الحديث عن (السقيفة) فكانت سقفنا الذي لا نطاول غيره، والحال أنّ سيرة النبي (ص) لم تكن أسيرة الموقف التاريخي بعد رحيله، بل إنّ دعواته الوحدوية تُنسى في ظلّ الانكباب على (رزيّة الخميس) ونسيان تراث غنيّ في ضرورة عدم العودة الى الوراء (الى الجاهلية) يضرب بعضنا رقاب بعض.
  • واستهلكتنا قصّة الظليمة التي تعرّض لها الإمام علي (ع)، فنسينا أن صاحب المظلمة نفسه، كان يقول ((فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى)) وأنه كان يردد (( لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور الا عليّ خاصّة)). وأنه وإن قاتل الخوارج، لا لأنهم كفّروه، بل لأنهم عرّضوا أمن المجتمع الاسلاميّ الى الخطر، إلا أنه قال (( لا تقاتلوا الخوارج من بعدي، فإن من طلب الحق فأخطأه، ليس كم طلب الباطل فأدركه)).
  • وتسمّرنا عند مصالحة الامام الحسن(ع) لمعاوية، ونسينا كيف أن الأمّة إذا عاشت مرض الشك بقيادتها، على حدّ تعبير السيد الشهيد محمد باقر الصدر(رض)، فإنا ستضطرها الى اتخاذ مواقف ما كانت لتتخذها لو أنها وجدت الأعوان الأشداء، والأنصار الواعين.
  • وتقوقعنا في مأساة كربلاء (المجزرة أو المذبحة)، ونسينا مفاهيم (الحريّة) و(العزّة) و(اخلاقيّة الانتصار) على قيم التهالك الدنيويّ، وأن حركة ونهضة الحسين لم تكن للإطاحة بالحكم الأمويّ فقط، وإنما أرادت أن تؤسس للنهوض ضدّ الطغيان في كلّ مكان وزمان.
  • وحصرنا الامام زين العابدين ب (الدعاء) والحال أنّ شخصيته (ع)بعد كربلاء أوسع مساحة، وحركته أشمل من سجدات وتسبيحات، وربما نسينا في غمرة المأساة، أنه أحد أهم عنصرين – بعد عمّته زينب في الفصل اللاحق للمأساة، وأنّ مواقف التأليب ضدّ الظلم والجور لم تقتصر على خطبه وبياناته في الكوفة والشام.
  • وحبسنا الامام الكاظم (ع) في طامورة ابن شاهك وابن السندي، ولم نتخيله أكثر من سجين هارون العبّاسيّ، في حين أن للامام (ع) حياته الرسالية الفاعلة قبل السجن، وتربيته لمواليه ومريديه وأتباعه، ومواقفه المناهضة لسلطة بني العباس التي أرست لقواعد التعاطي مع سلطات الجور في كل وقت.
  • وضربنا أسوارا على أئمتنا (الرضا ، والجواد، والهادي، والعسكري) (ع)، فلم تتخيلهم المتخيلة الإماميّة أو الشيعيّة سوى أناس واقعين تحت الإقامة الجبريّة، وننسى أنهم على الرغم من الحصار الجائر، إستطاعوا أن يكسروا تلك الحواجز بأفانين وأساليب حركيّة يجب أن تُدرَس وتُدرَّس.
  • ورحنا نندب الإمام المهدي (ع) ليلا ونهارا، داعينه الى التعجيل على ظهوره، غير مستوعبين، أن لكلّ حركة ونهضة شروط نضج واكتمال، وتوفير مقومات ومقدمات، وأن الأمر ليس مجرد أمنيات ومشتهيات، وأنه ينتظر منّا أن نكون على الأهبة، فلا يأتينا ونحن على هذا الحال الذي يرثى له.

      هذه الثقافة المجتزئة، والناقصة المبتورة في مفهومنا لاحياء أمر أهل البيت (ع) لن تساهم إلا في بثّ المزيد من الفساد والتخلُّف في مجتمعاتنا، إضافة إلى التفرقة والجهل، فنجد السياسة شيطنة،والتجارةَ غشَّاً، والمجالسَ مرتعاً للنميمة، والعلاقات مهلهلة، وترى بأُمّ العين ضعفَ النظام وعدم مراعاة القوانين.

      ولولا خشيتي من التربُّص ومن تصيُّد الأعداء في المياه العكرة، لقدَّمتُ قائمةً تطول من الأمثلة ولذكرت أسماء الأماكن التي تكثر فيها المجالس ويقلُّ فيها الإحياء الحقيقي لأمر أهل البيت -عليهم السلام- في واقع الناس.

   إنّ الطقوس الإيمانية الشكلية، ومجالس العزاء الكثيفة، و المسابح الطويلة بأيدي الناس، والتغنّي بأخلاق أهل البيت من غير أن تجد تلك الأخلاق غيورا على التأسّي بها، وأخذها بقوة، ليست دليلاً على إحياء أمر الأئمة عليهم السلام. فأين جوهر الإسلام المحمَّدي الأصيل الذي نادى به الأئمة (ع) والذي لا بدَّ أن يدفع الأُمَّة الى الانتصار والتحضُّر؟ أين هذا الخطاب الإسلامي الرائع الذي غيَّر التاريخ وهزَّ الواقع من جذوره ونقل المجتمع الجاهلي من حالة التخلُّف والتعصُّب إلى حالة المجتمع الحضاري المنتصر في بضع سنين؟ وهل المضمون الذي أكَّد عليه أهل البيت -عليهم السلام- حين طلبوا إحياء امرهم، هو هذه الأمور العاطفية والتعبوية المذهبية؟

حقيقة الإحياء:

——-

        ما الذي أراده الإمام الصادق(ع) من الفضيل ومن كل من يستمع لوصيته حين قال: (أحيوا أمرنا)؟

الإجابة عن ذلك كلّه نجدها في هذا  الحديث الرائع الوارد عن الإمام الرضا عليه السلام:

    فقد نقل (أبو الصلت الهروي) عن الإمام علي الرضا (ع) أنه قال : (( أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا. قلتُ: يا ابن رسول الله، وكيف يُحيي أمركم؟ قال: أن يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتَّبعونا)).

      بمقتضى هذا الحديث المفسِّر لحديث الامام الصادق (ع) الذي خاطب به (الفضيل بن يسار)، فإن المجالس التي يحبها الإمام (ع) هي تلك التي تحيا فيها علوم اهل البيت، والتي يريدنا عليه السلام أن نجعلها مصدراً لتعلُّم هذه الأحاديث التي حفظت لنا الإسلام المحمَّدي الأصيل، وأن يتم من خلال محاسن هذا الكلام الدعوة الى الله والدعوة الى مدرسة أهل البيت -عليهم السلام- التي هي رسالة الإسلام التي يودُّنا الله أن نحملها إلى الناس.

     واذا كان القصدُ هو الدعوة إلى الله والى اتباع نهج الأئمة (ع) من خلال هذه الكلمات، فكيف أوصانا القرآن الكريم بالدعوة الى الله؟ هل ندعو إلى سبيل الله عبر إثارة النعرات المذهبية وتحريك الغرائز؟ هل ندعو الى سبيل الله بهذه المجادلات والمعارضات المذهبية؟ كلا، فإن القرآن الكريم يعلنها واضحةً صريحة لا لبس فيها: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل/125).

     وفي المحصّلة، فليس المقصود بإحياء أمر الأئمة (ع) هو تحريك ثقافة الجدال والمعارضات وسرد الأحداث التي تمسّ بعض الشخصيات في تاريخ الإسلام، بحيث نحرّك الغرائز المذهبية، ونحرّك عِداء المخالفين وحقدهم.

    وما يؤكد وجوب تجنُّب هذا المنحى أحاديث عديدة وردت عن الأئمة عليهم السلام من ضمنها هذا الحديث الوارد عن الإمام الصادق (ع):

(كونوا دعاة الناس بأعمالكم، ولا تكونوا دعاةً بألسنتكم، فإنَّ الأمر ليس حيث يذهب إليه الناس… إنّه من أُخذ ميثاقه أنَّه منَّا فليس بخارج منَّا ولو ضربنا خيشومه بالسيف، ومَن لم يكن منَّا ثمّ حبونا له الدنيا لم يحبّنا).

تصحيح المفهوم:

———

       ماذا قصد الإمام (ع) من قوله (ليس حيث يذهب إليه الناس)؟

لعلَّ المقصود من كلام الإمام هنا أنَّ بعض الشيعة كانوا  يعتقدون أنهم يقدرون على هداية الناس بالاحتجاج عليهم بألسنتهم من خلال الإشارة الى الأحداث التاريخية ومسألة الإمامة والخلافة، ومن خلال التنقيص وتناول بعض الخلفاء بطريقة استفزازية. وهذا أسلوب خاطئ. ولعلَّ الإمام -عليه السلام- هنا أراد زجر الشيعة عن مهاجمة المخالفين واستعمال المعارضات والمجادلات معهم، فعلى ما يبدو أنَّ الشيعة كانوا يبالغون في هذه المجادلات ظنّاً منهم أنّهم يقدرون بذلك على هداية الخلق الى مدرسة اهل البيت (ع). لقد أراد الإمام أن يقول لهم هنا إنَّ الناس لا تصل الى اعتناق الحقيقة من خلال منطق المجادلات والمعارضات، وإنَّ محاولة إفحام الخصم وتبيان أننا على حقّ وأنه على باطل لا يفيد شيئاً في التغيير. فالناس قليلاً ما تستفيد من هكذا منطق، لكنها تستفيد وتتأثر كثيراً من خلال منطق الفعل.

إنَّ الأكثر تجسيداً لحقيقة المذهب هو أعمال وتصرُّفات وتوجُّهات أهل المذهب أنفسهم، فطبيعة الصورة التي يقدّمها واقع المجتمع الذي يعيش هذا المذهب هو الفيصل الذي يُشكّل “بيضة القبّان” في الدعوة الى أمر أهل البيت (ع). فالناس تريد أن ترى لا أن تسمع. الناس تقول: لا تقل لي بماذا تؤمن، ولكن أرني ماذا تفعل؟

      فإذاً على من يهتمّ بمذهب أهل البيت (ع) أن يتعلّم علومهم وتعاليمهم وأحاديثهم وأن يلتزم بالأخلاق والقيم والتوجُّهات التي دعوا إليها، وأن يسعى الى تحويل المجتمع الى مجتمع راقٍ وسامٍ وعقلاني ونموذجي من خلالها.

    وهنا ينبغي التنبيه الى موضوع مهم، فبعض إخواننا من أهل السنَّة يشكلون على الشيعة فيقولون: إنكم لا تروون عن رسول الله (ص) وكلّ مروياتكم هي عن أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)؟!

      ونحن نجيبُ: بغضّ النظر عن عقيدتنا في أئمَّة أهل البيت -عليهم السلام- وأنّهم منصَّبون من الله عزَّ وجلَّ وأنَّ قولهم حجّةٌ كقول رسول الله (ص)، كما دلّ على ذلك حديث الثقلين المتظافر وغيره… فإنّ أئمتنا -عليهم السلام- قد أسندوا (في احاديث صحية عندنا) أحاديثهم إلى رسول الله (ص) بشكل واضح وصريح، وبذلك تكون أحاديثهم هي أحاديث رسول الله (ص):

     فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: (حديثي حديثُ أبي، وحديثُ أبي حديثُ جدّي، وحديثُ جدّي حديثُ الحسين، وحديثُ الحسين حديثُ الحسن، وحديثُ الحسن حديثُ أمير المؤمنين -عليه السلام- وحديثُ أمير المؤمنين حديثُ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلَّم- وحديث رسول الله قول الله عز وجل) (الكافي: ج1 ص 53، الإرشاد: ج 2 ص 187).

     وكذلك جاء عن الإمام الباقر (عليه السلام) قوله لجابر: (يا جابر، لو كنَّا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنا من الهالكين، ولكنا نفتيهم بآثار من رسول الله صلى الله عليه وآله وأصول علم عندنا نتوارثها كابرٍ عن كابرٍ نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم) (بصائر الدرجات: 32).

        خلاصة القول، إنَّ هذه الأحاديث هي أحاديث رسول الله (ص) وهي التي حفظت لنا الإسلام الأصيل، ولا ينبغي أن نضع حاجزاً بينها وبين بقية المسلمين، بل علينا أن نبلغ الناس ما يملكه الأئمَّة من علم رسول الله (ص)، مُبعدينَ المواضيع الخلافية التي قد تُفقد الناس الاهتمام بأحاديث الأئمَّة (ع)، وتُبعد بالتالي الأمَّة الإسلامية عن هذا المعين الرائع الذي يبين لنا حقيقة سنَّة النبي (ص) الذي روى عنه الفريقان قوله: (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً).

Contact Us

We're not around right now. But you can send us an email and we'll get back to you, asap.

Not readable? Change text. captcha txt

Start typing and press Enter to search