منهجُ الإمام علي(ع) في التعاملِ مع معارضيه

         ضمانُ النقدِ البنّاء.. واحترامُ حريّةِ التعبير!

             ليس بين أيدينا أطروحة ممّيزة، أو نموذج سياسي رائد ومثالي يمكن أن نعتبره معياراً في التعامل مع المعارضة بإنصاف وموضوعيّة، كما في منهج الامام علي(ع) سواء مع من اختلف معهم، أو الذين اختلفوا معه. فلقد كان مثالا للمعارِض المنصف (هذا إذا اعتبرنا فترة إقصائه عن الحكم فترة معارضة)، مثلما كان نموذجا يُقتدى في السماح لمعارضيه في الاختلاف معه، ونقده والتعبير عن آرائهم المخالفة بحريّة، خلال فترة توليّه للخلافة أو الحكم.

 الإمام علي (ع) المُعارِض!

——————-

            تتجلى روعة المنهج العلويّ في التعاطي مع المعارضة بالمقارنة بين حالين: حال اعتزال السلطة، وعدم مناكفتها، بل الوقوف معها في محاولات الإنقاذ من المواقف المحرجة التي قد تسقط هيبة الدولة الاسلاميّة، لاسيما في المواقف الفكريّة والشرعيّة، وإدراك مرامي النصوص والمفاهيم القرآنيّة، أم التدخل في الوقت المناسب لحلّ المشكلات السياسيّة العويصة، كلّ ذلك يندرج في مقولته الشهيرة ( (لقد علمتم أني أحقّ الناس بها (أي الخلافة) من غيري، ووالله لأسالمنّ ما سلمت أمورُ المسلمين، ولم يكن فيها جور الا عليّ خاصّة)).(نهج البلاغة/ خ 74)

           كان مستشاراً أول للخلفاء، ومرجعا، ومنقذا في مواقف عديدة، ولو أراد أن يترك ظهر السلطة مكشوفا، لاستطاع من جهة ترك الأمور تسوء أكثر لتتاح له الفرصة لتولي الحكم، كما تفعل المعارضات السياسية في العالم اليوم، لم يكن متربّصاً، ولا متصيّداً في الماء العكر، ولا متحيّنا للفرص للانقضاض على مقاليد السلطة.

الإمام علي(ع) المُعارَض:

——————–

    هذا هو علي (ع) في موقفه الاسلاميّ الأصيل والنبيل يومَ كان مُعارِضاً، أمّا حينما آلت أمور الخلافة اليه، فقد واجه عاصفة من المعارضة السياسيّة غير السلميّة، العنيفة والمسلّحة والعاملة على إسقاط خلافته بأي ثمن، حتى أنه لم يُتح له تنفيذ برنامج حكمه كما كان يتمنّى،  فقال في ألم وحسرة ((لو قد استوت قدماي من هذه المداحض (الأماكن الزلقة) لغيّرتُ أشياء))! (نهج البلاغة/ الحكمة/269) وعلى الرغم من كلّ ما حفّ وأحاط بسنوات حكمه الأربع من مؤامرات وحروب وتجاوزات على القانون، ومن بذاءات تعرّض لها شخصيّا، إلا أننا لم نسمع عنه أنه قمع المعارضة، ومنع الحرّيات، ومارس سياسة الاضطهاد وتكميم الأفواه. بل على العكس، فقد تعامل تعاملا إنسانيّا مثيراً للدهشة مع معارضيه، حيث منحهم كافة حقوقهم المدنيّة والسياسيّة، مع أنهم كفّروه، وحرّضوا الناس ضدّه، ولم يقاتلهم الا عندما قاتلوه، لم يكن هو المبادر لشهر السلاح بوجوههم، هم الذين أعلنوا الحرب عليه، والأعجب من ذلك أنه عفى عنهم بعد انتهاء تلك المعارك، ضامناً لهم حريّة التعبير عن الرأي، والنقد البنّاء (الهادف والمتوازن) بل والمقاطعة أيضاً، كما لو يكن هناك قتال قد وقع بينهما، الأمر الذي يؤكد على أنّ الإمام (ع) كان يحترم (المعارضة السلميّة) و(النقد البنّاء)، هذا وهو الإمام المعصوم والمنصّب من قبل السماء، لكنه تغاضى عن ذلك، ليقدم النموذج الأمثل للسياسي أو الحاكم الذي يمتلك سعة الصدر والصبر، والتعامل بحكمة وحنكة سياسية متعالية، ويكفل لمعارضيه حقوقهم السياسية كاملة !!

 التأصيل لحقّ المعارضة:
———————–

        في مقال نشرته له مجلة (العربي) العدد (354) عام 1988، تحدث الكاتب المصري (فهمي هويدي) عن (التعددية والمعارضة في الإسلام) أشار فيه الى أنَّ مصادرة الرأي الآخر بحجّة اتقاء الفرقة، هي دعوة لإهدار مصلحة محقّقة تحسّبا لمفسدة محتملة، وهو ما لا يقول به عقلٌ ولا نقل. ويضيف : إن إساءة استخدام الحق لا تُعالج بمصادرة أصل الحق، وإنما تُواجه بتقويم الإساءة، وتوفير الضمانات اللازمة لعدم وقوع تلك الإساءة. وفي الوقت الذي يعتبر (هويدي) تجربة المعارضة في عهد الإمام علي نموذجا للمعارضة الحزبيّة المسلّحة التي واجهت الحكم الاسلاميّ في مراحله المبكرة، الا أنه يرى أن الفكر السياسي الإسلامي يبني الكثير من الاجتهادات على دروس تلك التجربة، ويقول ((الخوارج كفّروا الامام علي فوق المنابر وتركهم وشأنهم))! بل إنه قال لهم ((لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نبدؤكم بقتال، ولا نمنعكم الفيئ)).

        وينقل عن (السرخسي) في (المبسوط) تعقيبه على كلام الإمام (( إنّ في ذلك الكلام  دليلا على أنهم ما لم يعزموا على الخروج (التمرّد المسلّح) فالإمام لا يتعرّض لهم بالحبس والقتل، وفيه دليل على أنّ التعريض بشتم الامام لا يوجب التعزير، فإنه لم يعزّرهم وقد نسيوا الكفرَ اليه)) ويخلص الى أنّ تلك الحدود لو صيغت صياغة عصريّة لاستخلصنا منها إطارا متقدما للغاية لما نسميه بالحقوق السياسية أو التعددية الحزبيّة.

حقوق المعارضين:

————–

       حدّد الامام (ع) -في النص المتقدم-ثلاثة حقوق رئيسة من حقوق المعارضين له (الخوارج)، الحق الأول: (حق العبادة) بأن لا يُمنعوا من المساجد للصلاة والذكر والعبادة،لا أن تكون (مساجدَ الضرار) التي يقوم المعارضون بتأليب الرأي العام من خلالها ضدّ النظام العام  والسلم الأهلي. والحق الثاني: (حق تأمين المعيشة) أو ما يصطلح عليه اليوم بالرعاية الاجتماعيّة، أو الضمان الاجتماعي، لا كما يحصل في بعض بلداننا العربيّة عندما يُطرد المعارضُ من وظيفته بتهمة المعارضة بل يُحرم أهله وذووه من التعيين في دوائر الدولة كعقوبة جماعيّة، فقط لأّ نّ أحد أفراد العائلة معارض سياسي. وأمّا الحق الثالث: حق ممارسة المعارضة السلميّة، بالنقد والاعتراض والاحتجاج والمطالبة بالشفافيّة، والتعبير عن الرأي المضاد أو المخالف بطرق التعبير الحضاريّة غير المضرّة بالوضع الأمني والمدني للناس، وهذا هو الذي أشكل به الإمام على الخوارج في أحد خطاباته لهم ((فإن أبيتم أن تزعموا الاّ أني أخطأت وضللت، فلِمِ تُضلّلون عامّة أمّة محمد بضلالي، وتأخذونهم بخطأي، وتُكفّرونهم بذنوبي، سيوفكم على عواتقكم، تضعونها مواضعَ البرء والسقم، وتخلطون من أذنب بمن لم يُذنب)) (خطب الامام علي ج2/ص7).

         هنا يستخدم الإمام (ع) الأسلوب الذي يُعبّر عنه ب (مجاراة الخصم) فهو يجاريهم بوصفه مخطئا ضالاّ – بحسب زعمهم طبعا- لكنّه يحتجّ عليم بالعدوان على الأبرياء والمدنيين العزّل بمؤاخذة البريء بجريرة المسيء، وهم يتلون الكتاب (ولا تزرُ وازرة ٌوزرَ أخرى) (فاطر/18)).

         وعندما انشق عليه الخوارج، وكانوا ثمانية آلاف- أرسل اليهم ابن عباس ليناظرهم، فاستطاع أن يُقنع الكثيرين بالحجّة، ومن لم يقتنعوا أرسل اليهم الإمام كتابا يقول فيه ((كونوا حيث شئتم، بيننا وبينكم ألاّ تسفكوا دماً حراما، ولا تقطعوا سبيلاً، ولا تظلموا أحدا، فإن فعلتم نذرُ الحرب معكم، لا نبدأ بقتال مالم تُحدثوا فساداً)) (معالم الثقافة الإسلامية.د. عبد الكريم عثمان.ص66).

      لاحظ  أيضا كيف يفتح الإمام (ع) أبواب الحوار مع المعارضة، وكيف يُرسي مبادئ وحقوق المعارضين  بالنقد البنّاء و التعبير عن الرأي المخالف، من غير بطش ولا تنكيل ولاسجن. مما يعني أن عهد الإمام -على قصره- هو عهد ازدهار المعارضة وأفضل أزمانها، فلم يكن يمنع المظاهرات والاضرابات، حيث اتفق في زمانه أن أغلق أهلُ الكوفة الدكاكين احتجاجا على عزل قاضٍ لم يرضوا بعزله، فلم يتعرّض لهم الإمام بسوء، ولكنه نصحهم وبيّن لهم سبب عزله . ( عن كتاب (شرعيّة الاختلاف) .د. عبدالله اليوسف) ص187. بتصرّف).

 الدعوة الى المناظرة:

—————-

          لم يحصل في تاريخ الحكومات والأنظمة أن قبِلَ رئيس الدولة بمناظرة مواطن عادي يخالفه في الرأي، نعم، تجري المناظرات في الدول الديمقراطيّة بين مرشحي الرئاسة ومعاونيهم، أما أن يدعو الرئيس مواطنه للمناظرة من أجل إحقاق الحق فلم يحصل في غير زمانه (ع). فلقد كان (الحريث بن راشد الشامي) عدوّا للإمام (ع)ومقاطعا له، وقد واجه الإمام بصراحة قائلا (( والله لا أطعتُ أمرك، ولا صلّيتُ خلفك))! ومثل هذه الصراحة لاتعدّ في نظر حكوماتنا وقاحة، بل تدعو الى الاستباحة، استباحة دم المتمرّد على السلطة الشرعيّة.

أنظروا ماذا قال له الإمام: دعنا نتناظر ليظهر أيّنا على الحق، لعلّه يتوب!! فقال الحريث: أعود اليك غداً، فذهب ولم يعد! (شرعيّة الاختلاف.188 بتصرف)

العفو عن الإساءات الشخصيّة:

—————————

     كان الإمام علي (ع) يميّز بدقّة عجيبة بين (إساءة شخصيّة) يقصده الشاتم أو المُتَهِم بها، وبين (إساءة للنظام العام) أو الى (الدين الحنيف) وإن كان هو نفسه ممثل الدين الحقيقي، ورمزه الأول، وقائد الدولة الأعلى. في الواقع السياسي لبعض بلداننا اليوم شتيمة أعلى رأس في الدولة تعتبر شتيمة للوطن والسيادة. والنظام برمّته!

     روي أنه (ع) كان جالساً في أصحابه فمرّت بهم امرأة جميلة، فرمقها القوم بأبصارهم، فقال (ع): ((إنّ أبصار هذه الفحول طوامح، وأنّ ذلك سبب هبابها، فإذا نظر أحدكم الى امرأة تعجبه فليلامس أهله، فإنما هي امرأة كامرأته، فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافراً ما أفقهه! فوثب القوم ليقتلوه، فقال (ع)(( رويداً! إنما هو سبّ بسبّ، أو عفوٌ عن ذنب)) ( خطب نهج البلاغة .ج4.ص98).

      هنا ردّتا فعل مختلفتان: ردّة فعل أصحاب الإمام الذين أرادوا قتل متهم الامام بالكفر، وردّة فعل الامام بأن َّالردّ يمكن أن يكون بأحد طريقين: (المقابلة بالمثل) (سبّ بسبّ) ، أو الصفح والمسامحة ( عفوٌ عن ذنب) !

       يقول (أبو الأعلى المودودي) ( لقد قابل علي  بذاءات الخوارج في عهده بصدر رحب، وحدث أن قُبض على خمسة منهم وأُحضروا اليه، وكانوا يُكيلون له السباب علناً، وأقسم أحدهم أمام الناس قائلا: لأقتلنّ عليّا! ومع ذلك فقد أطلق سراحهم ) ! (الحكومة الإسلامية. المودودي. ص408)

        واللافت للنظر أنّ الامام كان دائما يتنازل عن حقّه الشخصيّ، لكنه لا يتنازل عن الحق العام، لاحظنا ذلك حتى عندما ضربه بن ملجم على رأسه، فقال لولده الحسن(ع) يوصيه: إن أنا متّ من هذه الضربة، فضربة بضربة، وإن عشت فأنا ولييُّ دمي!!

قبولُ شهادة المعارض!

—————–

      إذا لم يكن ما عرضناه لحدّ الآن داعياّ أو كافيا لإجلال هذا الإمام العظيم ورفع القبعات له، فما يدعو للعجب والدهشة حقّا، أنّ قضاته (ع) في البصرة استشاروه بشهادة الخوارج، أو عدم قبول شهادتهم، فأمر (ع) بقبولها !!( عن الغزالي في (المستصفى) نقله فهمي هويدي . في كتاب (رؤى إسلاميّة معاصرة .ص122).

    هذا يعني أنّ الإمام (ع) – وعلى الرغم من تكفير ومقاتلة الخوارج له- لم يُسقط عدالتهم، وسنبيّن ذلك من خلال تفريقه بين طالب الحق المخطئ وطالب الباطل المصيب.

 نعتُ المعارضة بالإخوة:

———————

         لم ينسب الإمام (ع) أحداً ممن حاربه الى الشرك والنفاق (لم يُكفّره ولم يُخرجه من ملّة الإسلام) !!سُئل عن وصف الخوارج ذات مرّة، فقال (( هم إخواننا بغوا علينا )) !

         وسئل عن أهل الجمل: (( أمشركون هم؟ قال: من الشرك فرّوا! قيل: أمنافقون هم؟ قال: إنّ المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا! قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا))!!

 فيا لله ولإنصاف علي (ع) من معارضيه! أروني بالله عليكم حاكما شرعيّا يصف معارضيه بإخوانه، وهم يبغون ويعتدون عليه ويسعون لإسقاطه، بل قتله؟!!

 الوصيّة بالمعارضة خيراً:

—————-

    منح الإمام علي (ع) الخوارج -بصفتهم معارضة -حقوقهم كاملة، وتعامل معهم بالعدل والانصاف، ولم يكتفِ بذلك بل أوصى بهم خيرا قبل مقتله ((لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فإنه من طلب الحقَّ فأخطأه، ليس كم طلب الباطل فأدركه)) وعلى رواية (فأصابه))، فمعارضو الإمام من الخوارج، على الرغم من كل أفاعيلهم وأباطيلهم، – في نظر علي- طلبةُ حق أخطأوا الطريق اليه، فأية نفس عالية هذه التي كان ينظر عليّ (ع) بمنظارها لمعارضيه!

إمامة عليّ (ع)!

————–

      بقي أن نقول،إ نّ الإمام عليا (ع) هو الوحيد من بين الصحابة المسلمين كان يحمل لقب الإمام بجدارة، لأن أفعاله ومواقفه وتشريعاته وأحكامه وما يحمل من قيم أخلاقيّة رفيعة تطابقت بشكل تام مع وصف القرآن للمؤمنين، كما أنه لم تكن ثمة مسافة أو فراغ بين قوله وعمله، فإذا أردنا أن نبني أنفسنا، ومؤسساتنا، ودولنا الاسلاميّة، وشعوبنا التي ترزح تحت خط الفقر  والمعاناة والإذلال وغياب العدالة، علينا أن نعود الى مدرسة الامام علي (ع) لننظر ونتفحّص : كيف حكم؟ وكيف تعامل مع خصومه ومعارضيه؟  وكيف دعا الى حرية النقد والتعبير من خلال خطبته الشهيرة (( فلا تكلّموني بما تُكلّم به الجبابرة، ولا تتحفّظوا مني بما يُتحفّظ به عند أهل البادرة (الذين يغضبون فيبادرون للانتقام)، ولا تُخالطوني بالمصانعة (المجاملة والتملّق)،ولا تظنّوا بي استثقالاً في حق قيل لي، ولا التماسَ إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يُقال له، او العدل أن يُعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفّوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل، فإني لستُ في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي )) !

 وهذا ليس مجرد دعوة مفتوحة للنقد البنّاء، وتقديم النصيحة للحاكم كيما يعدل، بلبرنامج عمل أخلاقي إنسانيّ وسياسي  لو أخذ به بعض حكّام العالم ولا نقول كلّهم، لرأينا عالما مختلفاً تماما .

Contact Us

We're not around right now. But you can send us an email and we'll get back to you, asap.

Not readable? Change text. captcha txt

Start typing and press Enter to search