نظرة الى المنهج العرفاني في تفسير القرآن

لعب التصوف كظاهرة دينية في اطار الدعوة الإسلامية دوراً مهماً في تشكل المنهج العرفاني في تفسير القرآن، فمنذ المحاولات الأولى لفهم الشريعة والكلام الإلهي في القرآن الكريم فهماً أفضل بعد غياب الرسول (ص)، وُجِد في الاسلام جماعة من العرفاء والزهاد آمنوا بأن الزهد والتجرد عن الدنيا والتعلق بالله ومحبته والسلوك اليه هو الطريق الموصل الى علم لدنِّي من الله، علم يلقيه الله في قلوب عارفيه فيتيح لهم فهماً عميقاً لكلامه، وقدرة على تأويله على وجهه الصحيح، ويهديهم هداية حقيقية الى سبيله سبحانه وتعالى كما ورد في القرآن الكريم {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}.

وبطبيعة الحال لم تكن هذه الجماعة لتقتنع بما قدمه لها من اسموهم بعلماء الظاهر من تفاسير وشروح لحقيقة الإسلام وتعاليمه بل انهم نظروا الى الدين والعلاقة بالخالق نظرة أكثر عمقاً، وأخذوا يبحثون عن طريقة أخرى تجعل فهمهم للكلام الالهي ووعيهم لتعاليم الدين أقوى وأعمق من الفهم القشري له، فوجدوا ان ذلك لا يتم الا بالارتقاء في العلاقة مع الخالق سبحانه وتعالى الى حالة من الاتحاد في الحب، اذ ان الله يحب الذين يحبونه بحيث يجيز لهم في آخر مراحل هذا الحب المتبادل الفناء في ذاته، وبحيث ينطبق عليهم قول الرسول (ص) عن الله في الحديث القدسي: {لا يزال العبد يتقرب اليَّ بالنوافل حتى أحبه فاذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش
بها}. وهذه العلاقة القريبة بالله التي تصورها هؤلاء كلما تقدمت في مراحلها على دروب تزكية النفس والتجرد عن العلائق الدنيوية الموصلة الى الله، كلما اتاحت فهماً أكبر لبواطن الشريعة التي تصدر عن القرآن الكريم، ذلك أن القرآن الكريم هو بعد كل شيء كلامه سبحانه وتعالى، كلام كذاته القدسية، لامتناه في معانيه ودلالاتة مليء بالرموز والإشارات التي لن يستطيع العقل البشري المحدود أن يحيط بها علماً، فلا تدرك إلا بالعلم الكشفي، ولا يسع حقائقها الا قلوب العارفين، اولئك القلة من الذين جاهدوا انفسهم وحازوا على مرتبة القرب الإلهي.

والأحاديث مشهورة في الدلالة على قدرة قلب المؤمن وسعته وانه محلّ للمكاشفة والالهام فـ ((قلب المؤمن عرشُ الرحمن)) وفي الحديث القدسي المعروف ((لا يسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن))(1) . و((العلم نورٌ يقذفُهُ اللهُ في قَلْب من يشاء)) وفي الآية الشريفة { ومن لم يجعلِ الله له نوراً فماله من نور النور: الآية 40. }

إن الفهم الذي سيناله هؤلاء القلة لكلامه سبحانه وتعالى هو فهم مختلف وعميق، فهم حضوري وشهودي، لا يحتاج إلى واسطة من أحد بعد أن ((هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة وباشروا اليقين واستلانوا ما استوعره المترفون وآنسوا بما استوحش منه الجاهلون وصحبوا الناس بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى)) كما يعبر عنهم الامام علي (ع).

وهكذا قدم لنا التصوف والعرفان في الإسلام منهجاً مختلفاً لتفسير القرآن، يقوم باختصار على أخذ المعاني مباشرة عن الله سبحانه وتعالى بالمكاشفة والإلهام، لكن هذا المنهج أخذ يتميز مع الزمن وينقسم الى اتجاهات وطرائق عدداً. بيد أنَّ مادةً واحدةً بقيت تجمع بين مختلف هذه الاتجاهات، وهي الرغبة لدى السالكين الى الله في الاتحاد بالله كغاية وهدف، وايجاد حالة من صوفية الرسول في أنفسهم، لأن الوقوف على حقائق الرموز والإشارات القرآنية واختراق المستوى الظاهري للآيات للنفاذ الى البواطن يحتاج من العارف المفسر ان يصل الى مرتبة المخاطب بهذه الآيات نفسه، الذي هو رسول الله (ص)، التي نزل بها الرسول الأمين جبرئيل عليه السلام على قلبه. فالوصول الى هذه المرتبة معناه الوصول الى مستوى فهم الرسول لها، لا إلى مستوى شرحه، أي الوصول الى (مطلع) النص كما في تعبير الصوفية.

ويفيدنا التصوف العملي، أو العرفان أنَّ العارف في هذه ((المرتبة يتلقى مباشرة عن الله، أي يصل الى مرحلة العلم الكشفي، وهو في هذه المرحلة يسمع عن الله بلا واسطة ويتوحد مع القرآن في وجوده ومعرفته وفهمه، فلا يتعامل معه باعتباره نصاً يجب فهمه فحسب، بل يتحد به متلوناً مع آياته، مستجيباً لمواطنه المختلفة استجابة تتفق مع طبيعة هذه المواطن، بلاغاً كانت أم انذارا، أم توحيدا أم ذكرا)) (2) أي ان المطلوب للوصول الى هذه المرتبة هو أن يتحلى العارف بالقرآن فيجعله يؤثر في اعماق قلبه بدرجة يتحول باطنه معها الى صورة لكلام الله،
ويختلط القرآن بلحمه ودمه، ليواصل معراجه نحو هدفه النهائي، باتجاه مقام لقاء الله سبحانه وتعالى. وفي كلام أمير المؤمنين في وصف المتقين ((وإذا مرُّوا بآية فيها تخويف أصغوا اليها مسامع قلوبهم وأبصارهم فاقشعَرَّت مِنها جُلُودهم ووجلت قلوبُهم فظنّوا أن صهيل جهنَّم وزفيرها وشهيقها في أصول آذانهم، واذا مرُّوا بآيةٍ فيها تشويقٌ ركنوا اليها طمعاً وتطلّعت أنفسُهم اليها شوقاً وظنّوا أنَّها نُصْبَ أعيُنهم ويعقب الامام الخميني في الاربعون حديثا على كلام أميرالمؤمنين هذا بالقول ((ان من يتمعَّن ويتدبر في مَعاني القرآن الكريم، يتأثر قلبه، ويبلغ مقام المتقين شيئاً فشيئاً. وان حظي بتوفيق وسداد من الله، لتجاوز هذا المقام ولتحوّل كل عضو وجارحة وقوة منه إلى آية من الآيات الالهية، ولعلّ جَذَوَات خطاب الله وجذباته، ترفعه وتبلغ به الى مستوى إدراك حقيقة ((اقرأ واصعد)) في هذا العالم ووصل إلى مرحلة سماع الكلام من المتكلم من
دون واسطة، وتحول الى موجود لا يسع الانسان فهمه واستيعابه)) (3.)

واما محي الدين بن عربي، فهو يصور لنا معراج العارف الى الله بواسطة القرآن الكريم بصورة حديث قدسي شريف يجدر بنا ان ننقله هنا كاملاً لتقريب الفكرة حيث يقول سبحانه وتعالى لعبده السالك اليه:

((وما طلبتك لتتلوا القرآن لتقف مع معانيه، فإن معانيه تفزِّقك عني، فآية تمشي بك في جنتي وما أعددت لأوليائي فيها، فأين أنا إذا كنت أنت في جنتي مع الحورالمقصورات في الخيام كأنهن الياقوت والمرجان متكئاً على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان تُسقَى من رحيق مختوم مزاجه من تسنيم. وآية تستشرف بك على جهنم فتعاين ما أعددت فيها لمن عصاني واشرك بي من سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم. وترى الحُطَمة وما ادراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة إنها عليهم مؤصدة في عمد ممددة. أين أنت يا عبدي اذا تلوت هذه الآية وانت بخاطرك وهمتك في الجنة تارة، وفي جهنم تارة، ثم تتلو فتمشي بك في القارعة وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش، يوم تَذْهل كل مرضعة عمّا أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. وترى في ذلك اليوم من هذه الآية يفرُّ المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه. وترى العرش في ذلك اليوم تحمله ثمانية أملاك وفي ذلك اليوم تعرضون فأين أنا والليل لي، فها أنت يا عبدي في النهار في معاشك، وفي الليل فيما تعطيه تلاوتك من جنة ونار وعرض، فأنت بين آخرة ودنيا وبرزخ، فما تركت لي وقتاً تخلو بي فيه إلاّ جعلته لنفسك والليل لي يا عبدي لا للمحمدة والثناء… فأين أنا وأين خلوتك بي ما عرفني ولا عرف مقدار قولي الليل لي، وما عرف لماذا نزلت اليك بالليل الاّ العارف المحقق الذي لقيَه بعض إخوانه فقال له يا أخي اذكرني في  خلوتك بربك فأجابه ذلك العبد فقال إذا ذكرتك فلست في خلوة، فمثل ذلك عرف قدر نزولي إلى السماء الدنيا بالليل، ولماذا نزلت ولِمنْ طلبت، فأنا أتلو كتابي عليه بلسانه وهو يسمع فتلك مسامرتي له، وذلك العبد هو المُلتَذ بكلامي. فإذا
وقف مع معانيه فقد خرج عني بفكره وتأمله، فالذي ينبغي له أن يُصْغي إلي ويُخلّي سَمعه لكلامي حتى أكون أنا في تلك التلاوة، كما تلوت عليه وأسمعته أكون أنا الذي أشرح له كلامي وأترجم له عن معناه فتلك مسامرتي معه، فيأخذه العلم مني لا من فكره واعتباره، فلا يبالي بذكر جنة ولا نار ولا حساب ولا عرض ولا دنيا ولا آخرة، فإنه ما نظرها بعقله ولا بحث عن الآية بفكره، وإنما ألقى السمع لما أقوله له وهو شهيد حاضر معي أتولى تعليمه بنفسي فأقول له يا عبدي أردت بهذه الآية كذا وكذا وهذه الآية الأخرى كذا وكذا وهكذا الى أن ينصدع الفجر فيحصل من العلوم على يقين ما لم يكن عنده فإنه مني سمع القرآن، ومني سمع شرحه وتفسير معانيه)) (4).

وينقل الامام الخميني عن كتاب (فلاح السائل) للسيد ابن طاووس (قدس الله سرّه) أنه قال: ((فقد روي أنّ مولانا جعفر بن محمد الصادق عليه السلام كان يتلو القرآن في صلاته فغُشي عليه، فلما أفاق سُئل: ما الذي أوجب ما انتهت حالُك اليه؟

فقال ما معناه: ما زلت أكرِّر آيات القرآن حتى بَلَغْتُ الى حال كأنني سمعتها مشافهة ممن أنزلها على المكاشفة والعيان، فلم تقم القوة البشرية بمكاشفة الجلالة الإلهية)).

ويعقب الامام الخميني رحمه الله على هذه الرواية ((ان الحال التي كانت تحصل لرسول الله (ص) لم تحصل لأحد من الكائنات، كما ورد في الحديث المشهور (لي مع الله حالٌ لا يسعهُ ملكٌ مقرَّبٌ ولا نبيّ مرسل). وعليه أترك هذا الموضوع الذي لاحظ لي منه إلاّ الألفاظ. ولكن المهم لأمثالنا هو أننا المحرومون من مقامات الاولياء أن لا نجحد هذه المقامات بل نسلم بها فإن في التسليم لأمر الأولياء فوائد كثيرة وفي الإنكار والعياذ بالله مفاسد اللهم إنّي مُسَلِّم لأمرِهم صلواتُ الله عليهم أجمعين)) (5).

المواقف من المنحى العرفاني في التفسير:

لكن سلوك هذا المنحى لفهم معاني ودلالات الآيات القرآنية جلب على اصحابه الكثير من الهجوم والتجريح فقد شنأهم عليه الكثيرون معتبرينه ضرباً من التخمين لمعاني القرآن الكريم لا ينبني على قواعد التفسير التقليدية المعروفة والتي لا تقبل من معاني الآيات الاّ ما وصل الينا عن طريق المعصومين والصحابة والتابعين وما تعطيه اللغة العربية من دلالة على هذه المعاني. وقد انقسم المعارضون لهذا المنحى في فهم الآيات القرآنية وتفسيرها عبر العصور المختلفة الى فريقين:

أحدهما: تشدَّد كلياً واعتبر ان هذا المنحى في التفسير نشأ على مبادئ فاسدة تقوض دعائم الدين، وأن معظم ما يتناقله الصوفية من تفسير على انه تفسير هو مجرد شطحات لا يمكن بحال من الاحوال ان تقبل على أساس أنها تفسير لمراد الله تعالى من آياته، وحتى أن صح أن نحمل بعضاً منه على معان القرآن فإنه لا يعدو أن يكون ظنياً وقد يظهر خطؤه في يوم من الأيام.

وركز هؤلاء هجومهم على الفرق الباطنية وسحبوا كل محاولة عرفانية لتفسير الآي القرآني على هذه الفرق من الذين انكروا ظواهر الشرع والقرآن الكريم واعتقدوا أن المقصود الحقيقي للآيات القرآنية هو المعنى الباطن فحسب، واما الظاهر فما هو الا كالقشر الذي يحفظ ويُصان به اللباب.

لقد عُدَّ عند هؤلاء الوقوف عند المستوى الظاهر في الفهم خطأً واعتقاده كفراً واستندوا لهذا الاعتقاد الأساس لديهم في التفسير الى قوله تعالى في الآية 13 من سورة الحديد: {فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب}.

وهنا، وحتى عصرنا هذا لا يزال البعض يتهم ابن عربي بأنه من أصحاب هذا المنحى، مع أنه يصر في فتوحاته المكية على ضرورة الجمع بين الظاهر والباطن لفهم الآيات القرآنية، وعنده ان هناك مستويين من الفهم لظواهر القرآن:

فهم أهل الرسوم والظاهر لها من حيث تدل عليه في وضعية اللغة البشرية، وفهم العارفين لها من حيث تحمله من معانٍ روحية عميقة في اللغة الإلهية، فليست اللغة العادية للقرآن الاّ صدى للغة الإلهية أو مظهراً لها على المستوى الوجودي.. فبينما يتوقف أهل الظاهر عند العبارات ومعانيها التي تعطيها قوة اللغة الوضعية، فإن العارفين ينفذون الى ما تشير اليه العبارة من معان وجودية الهية، أي ينفذون الى باطنها الروحي العميق… فإذا كانت العبارات القرآنية بالنسبة لأهل الرسوم ظواهر فانها بالنسبة للعارفين اشارات على ما تختزن في بواطنها من معانٍ إلهيّة عميقة.إن الفارق بين ظاهر العبارة وباطنها الإشاري الرمزي هو الفارق بين اللغة الإنسانية العادية واللغة الالهية التي تتجلى في القرآن كما تتجلّى في الوجود..

فظاهر العبارة هو ما تدل عليه من حيث وضعية اللغة، والاشارة هي باطنها من حيث هي لغة الهية(6).

أما الفريق الآخر فقد تساهل بعض الشي ونظر الى تفاسير الصوفية نظرة أكثر موضوعية فرأى أن يتم الفرز والتمييز بين اتجاهين في هذه التفاسير:

بين ما يرفض كلياً منها وبين ما يتسامح في قبوله على أساس قواعد ومبادئ محددة.

أما ما يرفض كلياً منها فهو بالنسبة لهؤلاء التفاسير التي أتت بها الفرق الباطنية والتي شرحنا حالها سالفاً، وكذلك التفسير الذي يعرف اصطلاحاً باسم التفسير الصوفي النظري، وحاله أنه وجد من المتصوفة عنوا بتفسير الكون وتوضيحه بأبعاده الثلاثة، الله، الانسان والوجود بواسطة العقل والمنطق والاستدلال ليستعملوا بعد ذلك ما وصلوا اليه من نظريات حول هذه الابعاد الثلاثة في تفسيرمعاني الكثير من الآيات القرآنية. وقد اتهم هؤلاء بأنهم تجاوزوا الإسلام بما أعطاه للكون من تفسير وتوضيح وتعسفوا في فهم آيات القرآن حرصاً منهم على اثبات نظرياتهم التي لربما كانت بعيدة عن روح القرآن ومعاني آياته، التي جاءت لهداية الناس لا لإثبات نظرياتهم. هذه النظريات التي لو تسومح في قبولها لكانت التفاسير التي انبنت عليها خرجت بالآيات عن ظاهرها الذي يؤيده الشرع. وهنا ايضاً اتهم محي الدين بن عربي بأنه من ابرز من يمثلون هذا المنحى في
التفسير بل أنه شيخ هذه الطريقة واستاذها الأكبر(7). مع أن مريدي ابن عربي وأنصاره يؤكدون ان ما استخلصه الشيخ الأكبر من نظريات فلسفية حول الله والإنسان والوجود انما دلته عليه حقائق التفسير وأنه في تفسيره للآيات القرآنية الكريمة ((لم يكن في اثر اثبات النظريات بل كان يمتلك خلوصاً في النوايا ولا يريد الا كشفاً افضل لمعاني القرآن)).

وأما ما يتسامح باعتباره من التفسير فهو بالنسبة لهؤلاء التفسير العرفاني أو الذي اصطلحوا على تسميته بالفيضي الاشاري. ذلك أنّ آيات القرآن الكريم تشتمل على ظاهر وباطن والمستند لهذا المورد أحاديث نقلت عن الرسول (ص) والأئمة التي من أهمها قوله (ص) {ان للقرآن ظهراً وبطناً ولبطنه بطناً الى سبعة أبطن}. فالآيات القرآنية وان كانت في تراكيب عربية والفاظ لغوية لكن لها اغوار وأسرار واعماق وتدقيقات ورموز وكنايات(8)، فالألفاظ التي تعبر عن كل آية ما هي الاّ اشارات ورموز الهية لما تنطوي عليه في بطونها من معاني، ولكن العارف حتى يتمكن من الإطلاع عليها لابد له ان يطوي سفراً عرفانياً الى الله يتدرج فيه صعوداً في سلسلة من منازل القرب والمقامات العرفانية المحددة لدى اربابها، حتى يصل الى مرحلة يغدو فيها قلبه كالمرآة الصافية المصقولة التي ينعكس فيها فيما ينعكس بالتدبر والتأمل العميق حقائق البطون القرآنية.

وقد سمي هذا التدرج بالمقامات (بالسير والسلوك الى الله).

ونجد عند الامام الخميني أن الشرط الأول لهذا التدرج في المقامات والسير والسلوك الى الله ((هو الخروج من البيت المظلم للنفس والذات والأنانية. فكما ان الإنسان في السفر الخارجي العيني المحسوس، لا يكون مسافراً مادام هو في مكانه وبيته رغم تخيّله السفر وتحدثه عن كونه مسافراً، بل لا بد من ترك المكان ومغادرة البيت حتى يقال انه مسافر، وكما أن السفر الشرعي لا يتحقق الا بعد مغادرة البلد واختفاء آثار، فكذلك لا يتحقق هذا السفر العرفاني الى الله، والهجرة الشهودية الا بعد التخلي عن البيت المظلم للنفس واختفاء آثارها ومعالمها، لأنه ما دامت آثار التعينات مشهودة وأصوات الكثرات مسموعة، لا يكون الإنسان مسافراً، بل أنه تخيل السفر وادعى السير والسلوك، قال الله تعالى:
{ومن يخرج من بيته مهاجراً الى الله ورسوله ثم يدركِهُ الموت فقد وقع أجرُه على الله}. النساء، آية 100.

فبعد أن يغادر السالك الى الله بخطوات ترويض النفس والتقوى الكاملة من بيت النفس، ولم يصطحب معه في هذا الخروج العُلقة الدنيوية، والتعيّنات، ويتحقق له السَفر الى الله سبحانه، يتجلى له الحق المتعالي قبل كل شيء، على قلبه المقدس بالألوهية ومقام ظهور الأسماء والصفات…)).

((وفي سفر العشق هذا يكون الحق المتعالي مبدأ السفر والباعث على السفر ونهاية السفر)) (9).

قواعد التفسير الإشاري:

أما القواعد والمبادئ الواجب توفرها لدى هؤلاء ليُتسامح في اعتبار التفسيرالاشاري من التفسير ولتمييزه عن تفسيرات الفرق الباطنية فهي:

1 ـ أن يكون بين المعنى الظاهر والمعنى الباطن صلة ومناسبة فلا يحق للمفسرالعارف الانطلاق في التفسير بلا حدود ولا قيود بل عليه التثبت من أن ما يفسره من معنى باطن للآيات له صلة مع المعنى الظاهر.

وهذا الشرط يوافق عليه العرفاء تماماً بل ان التفسير الاشاري عند بن عربي هو تفسير حقيقي نافع للمعنى الظاهر للنص، وما تسمية العرفاء ما يرونه من تفسير للآية اشارة الاّ ليأنس الفقهاء من أهل الرسوم بذلك، على أساس انهم يقبلون كلمة الاشارة دلالة على التفسير الصوفي المتسامح به ويرفضون اعتباره تفسيراً لظاهر النص(10).

ويصوغ ابن عربي فكرته في اعتبار التفسير الإشاري تفسيراً حقيقيا لظاهر النص في هذا القالب: ففهم المراد الحقيقي للآية أو الباطن يمر بمراحل، ويمثل الفهم للمعنى الظاهر مرحلة أولية لفهم المستويات الأخرى الباطنة، بمعنى ان المعنى الظاهر هو المستوى الذي يجب ان نتجاوزه لفهم حقيقة المراد من الآية فالآيات القرآنية التي نقرأها ليست الا محاكاة للكلام الالهي الوجودي ذلك أن الكلام الالهي مرّ بمراحل ثلاث وتحدد على ثلاث مستويات قبل أن يصل الينا، أولاها لغة الملك جبريل، وثانيها لغة الرسول الخاصة، وثالثها وآخرها اللغة العربية الاصطلاحية.

وهذه المستويات يمثل كل منها شفرة مستقلة او صورة خاصة من صور الكلام.

فإذا أضفنا مرتبة الكلام الالهي اليها يكون هناك اربعة مستويات للكلام الالهي، وهذه تقودنا الى الإشارة الى المصطلحات المشهورة لدى العرفاء فيها، والمستقاة من كلام للرسول (ص) حيث نسب اليه القول {لكل آية ظاهر وباطن وحد ومطلع}.
((فالوقوف عند معطيات اللغة العربية وفهم النص من خلالها يمثل وقوفاً عند المستوى الظاهر، والنفاذ الى ما وراء هذا المستوى لفهم القرآن كما نزل على الرسول يمثل المستوى الباطن، وهذا المستوى يشير اليه ابن عربي بتنزل القرآن على قلب الصوفي.

وفي هذا المستوى يتجاوز العارف معطيات اللغة العامة ويصل الى الشفرة الخاصة بالرسول في اطار اللغة العامة.

اما المستوى الثالث فهو فهم القرآن من خلال الشفرة الجبريلية، وهذا المستوى يمثل مستوى (الحد) فجبريل نفسه ينتمي الى عالم الجبروت، ويبقى المستوى الرابع والأخير وهو مستوى (المطلع) حيث يصل الصوفي الى مرتبة العلم بالكلام الالهي المطلق ويفهم القرآن في ضوء هذه الشفرة)) (11). وهكذا فاذا كان علماء الظاهر يأخذون بما تدل عليه الآية من حيث المعنى الذي تعطيه اللغة الانسانية فان العرفاء يتجاوزون ذلك وينفذون الى باطنها الروحي العميق ويأخذون المعنى على حقيقته من حيث هو لغة الهية.

2 ـ ان لا ينطلق المفسر في التفسير الاشاري عن نظريات وتصورات فلسفية مسبقة، فالمعاني القرآنية لا يمكن أن تأخذ كإشراقات الهية والهامات ربانية، وقد استقي معينها ومنهلها من فلسفات مسبقة.

3 ـ ان لا يكون المفسر الاشاري من أهل الادعاء بأن التفسير الإشاري هو المراد وحده دون الظاهر أو باقي وجوه التفسير.

4 ـ ان لا يكون لهذا التفسير معارض شرعي او عقلي، وهنا يؤكد العرفاء ان التفسير الاشاري لا يحل محل التفسير بالمأثور والمنقول عن النبي (ص) والأئمة ولا يتعارض معه، بل إنّه استكمال للتفسير بالمأثور من اجل الوصول الى لبابه.

5 ـ ان يكون له شاهد شرعي من الحديث والسنة يؤيده.

وهذه الشروط اذا ما توفرت في التفسير الاشاري جعلته متسامحاً في الأخذ به لدى هؤلاء، بمعنى انه لا يرفض، لا انه يجب الأخذ به، واما اذا فقدت فان التفسير يلحق (بالقول على الله دون علم) او بما اشتهر بتسميته ((بشطحات الصوفية)) (12).

للبحث صلة

——————————————————————————–

(1) انظر الأربعون حديثاً، الامام الخميني، الحديث التاسع والعشرون، ص431.

(2) نصر حامد أبو زيد: فلسفة التأويل، ص292.

(3) الأربعون حديثاً، الحديث التاسع والعشرون، ص451.

(4) انظر: نصر حامد أبو زيد: فلسفة التأويل، دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين ابن
عربي، ص294 ـ 295 نقلاًعن الفتوحات المكية لابن عربي 1/238 ـ 239.

(5) الأربعون حديثاً، الحديث السابع والعشرون / 396.

(6) لمزيد من الاطلاع راجع: نصر حامد ابو زيد: فلسفة التأويل، دراسة في تأويل القرآن
عند محي الدين ابن عربي الفصـل الأول، مفهـوم الرمـز والاشارة 266 ، 282.

(7) انظـر محمد حسـين الذهبي: التفسير والمفسرون، ص34. 

(8) راجع الشيخ سيد حيدر آملي: المقدمات من كتاب نص النصوص في شرح نصوص الحكم لمحي
الدين ابن عربي ص34 و72.

(9) الأربعون حديثاً، الحديث السابع والثلاثون ص563، 564.

(10) انظر: نصر حامد ابو زيد: فلسفة التأويل / 270.

(11) انظر حامد ابو زيد: فلسفة التأويل / ص287.

(12) عرف الجرجاني الشـطح بأنها كلمة عليها رائحة رعونة ودعوى تصدر من أهل المعرفة
باضطرار واضطراب، أو هو وجد عنيف تشعر به النفس حينما تكون في حضـرة الالوهية فلا
تسـتطيع الكتمان، فان اشتد بالصوفي الوجد وكان في حال سكر وفقد الوعي او الشعور
فانه يسمع في نفسه هاتفاً فينطق عما طاف به وكأنه الحق سبحانه هو الذي ينطق بلسانه.

** *

 

Contact Us

We're not around right now. But you can send us an email and we'll get back to you, asap.

Not readable? Change text. captcha txt

Start typing and press Enter to search