هل من “إيجابيات” لوباء “كورونا”؟

إخوتي وأخواتي وأحبَّتي في الله!

هل يكون “كورونا” دواءَ الأخلاقِ في العالم؟

الخوف من الوباء!

  سأتناول معكم مجدَّداً، في كلمتي لهذا الأسبوع، موضوعَ هذا الوباء الخطير الـمُسمَّى “كورونا”، لكن من زاوية ثانية هي زاوية الخوف من هذا الوباء.

فقد نشر هذا الوباء الخوف والقلق منه في مختلف أرجاء العالم، حتى بات الحديث عنه حديثَ الساعة في كل مكان. ولعلَّ أكثر ما يثير الرعب من هذا الوباء أنه قد يصيب الإنسان دون أن يشعر به. وقد تمتدُّ مخالبه إلى رئتَيْه ويؤدي به إلى الموت، وهذا ما سبَّب الهلع الكبير منه في العالم، ودفع الدول والحكومات إلى اتّخاذ أقصى الاحتياطات للوقاية منه. وهكذا أُغلقت الحدود والمطارات والمدارس والمصانع والأعمال، وحُظِرَ التفاعل الاجتماعي والتجوال، وأُوقِفَتْ عجلة الحياة المادية والحركة بشكل عام.

والحقيقة أنَّ هذه الاحتياطات مشروعةٌ تماماً، بل إنها خير طريقةٍ لمكافحة هذا الفيروس حالياً، نظراً لأنه ينتقل بالعدوى؛ وهذه العدوى لا علاج ولا دواء لها إلا نظام جهاز المناعة في جسم الإنسان؛ أي خطّ الدفاع الأول والأخير الذي زوَّدنا به الله سبحانه وتعالى داخل أجسادنا.

   وأما النظام الصحّي العالمي فلا طاقة له على معالجة هذا الوباء حالياً،  فلا يوجد  له دواء أو لقاح، وليس في وسع المستشفيات استقبال الأعداد الهائلة من الناس التي قد تصاب به. والمعلومات تتحدَّث اليوم عن أن هذا الوباء قد يقتل الشباب، وليس فقط كبار السن!

   ونشكر الله سبحانه وتعالى أنه لم تحصل أي إصابة بهذا المرض في جاليتنا حتى الآن، لكن ذلك لا يعني أنه لن يصل إلينا. ولذلك تناولتُ في حديثي في الأسبوع الماضي سُبُلَ الوقاية منه، وموقف الشرع الحازم من ضرورة الأخذ بالأسباب والعمل بالوقاية، وعن ضرورة إغلاق أماكن التجمُّع العام، وحماية أهلنا من كبار السن منه، ومراعاة ترك مسافة مناسبة بين شخص وآخر منعاً لانتشاره واتّساع رقعته ووصوله إلينا.

   وندعو الله ألَّا يصيب هذا الوباء أحداً بمكروه، سائلينه تعالى العافية والسلامة لأهلنا وأحبَّتنا وأن يحميَ الجميع من شرّ هذا المرض.

ذكر الموت:

  أمَّا حديثي اليوم فمختلفٌ نوعاً ما. إنه حديث “كورونا” الـمُذكِّرة بالموت. وسأتطرّق الى الخوف الشائع بين الناس من أنّ الموت قاب قوسين وأدنى.

    والحقيقة أنَّ هذا الخوف من الآثار والأبعاد السلبية لهذا الوباء هو خوف مقلق ومشروع. فالعالم اليوم من أقصاه إلى أقصاه يحبس أنفاسه، و يقف مشدود الأعصاب خائف هلعااً، وقد دخل في دائرة احتياطات لا تنتهي.

   والسؤال الذي نطرحه هاهنا من وجهة نظر دينية إسلامية وأخلاقية: هل يحتاج العالم إلى هذا الخوف؟

     في مفاهيمنا الإسلاميّة العميقة، يكون الجواب بـ: نعم، يحتاج إلى هذا الخوف؛ يحتاج إلى (بركاته) أو (منافعه) أو(حسناته) لمن يدقّق النظر، ولا ينظر إلى سطوح الأشياء فقط، أو الى الخسائر فقط. فالعالم يحتاج اليوم –وأكثر من اي وقت مضى- إلى وقفة مع الذات، وإلى العودة إلى نفسه… يحتاج إلى هذا “الدواء” الأخلاقي، بعدما كَثُرَ الظلم واستشرى الفسق والفساد في الأرض، واستكبرت الدول الغنية واستطالت واعتدت، وجاعت الدول الفقيرة ونُهبتْ ودُمِّرتْ.

    إنَّ الخوف من الموت والابتلاء بالأمراض المميتة قد يعيد الإنسان إلى نفسه، ويجعله يتوقف قليلاً لمراجعة حساباته، فيتأمَّل في الموت وفي معنى الموت، وفي معنى حياته أيضاً. وهذا في جوهره تأمُّلٌ في الذات؛ في حركاتها وسَكَناتها وتصرُّفاتها وعلاقاتها، ومآل هذه النفس بعد الموت. وهذا ما قد لا يقوم الإنسان به في ظروف الصحَّة والسلامة والأمن والاستقرار.

    بمعنى أنَّ هذا البلاء قد يجعل الإنسان أكثر حكمةً، وأكثر لطفاً في تعامله مع الآخرين، وقد يدفعه إلى إعادة وصل ما انقطع بينه وبين الله سبحانه وتعالى، وبينه وبين الناس. وقد يوقظ ضمير بعضنا ممن ظلم وقتل ونهب وفسق واستعلى في الأرض بغير الحق، فيكبحه ويردعه عن كفره وفسقه وغيّه وعدوانه.

    أمَّا هذا الحصار الذي تحاصر به الدول الغنية نفسها ويُجبرها على إيقاف عجلة الاقتصاد والأعمال والحركة فيها بسبب هذا الخوف، فقد يعطيها دروساً وعِبَراً قويّة عسى أن تلتفت وتشعر بمعاناة الشعوب الفقيرة التي تحاصرها وتجوّعها وتضرب اقتصاداتها. فالدروس التي يمكن أن يستفيد منها زعماء هذه الدول وشعوبها في هكذا محنة صادمة هي أكثر بكثير من الدروس التي قد يستفيدون منها في الأيام الاعتيادية.

كلّ أزمة مادة للموعظة:

  إننا نعيش في بلاد مادّية تقول لنا الثقافة فيها: (شيئان يستحيل التحديق فيهما: الشمس والموت).

    وبالفعل فإن أكثر الناس في المجتمعات الماديّة، يخافون الموت، ويرفضون التحديق في وجهه، فلا يشعرون بالراحة عند الحديث عنه، ولا يريدون مَنْ أو ما يُذكّرهم به، ويعتبرونه حديثاً غير مرغوب فيه أبداً. فهم لا يعرفون عنه سوى أنه نهاية مأسوية للحياة وخاتمة الشهوات والعلاقات، لذلك يحاولون غالباً أن يُبعدوا شَبَحَه عنهم باللعب واللهو والاستغراق المادي، وبتطوير العناية الصحيّة.

لكن هذا اليقين الذي يرفضون التحديق بوجهه يُحدِّق اليوم في وجوههم جميعاً، ويقرع قلوبهم ويصيبهم بالخوف والهلع. يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:

(وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) (الرعد/ 31).

– قارعة: أي مصيبة تطرق أبوابهم، كما طرقت أبواب جيرانهم.

إنَّ (كورونا)؛ هذا الفيروس الذي لا يُرى بالعين المجرَّدة، طرقَ أبواب الصين، وأبواب أميركا، وأبواب العالم، وأبوابنا أيضاً! إنه كارثة ، مصيبة، آفة تقرع نفوسهم لعلَّهم يستيقظون من سُباتهم العميق.

و(قارعة) لأنها تُشبه قرعَ طبول الحرب، فيا أيّها الناس خذوا حذركم، إنَّ الخطر على الأبواب. وها أنَّ العالم يهتزُّ لقرع هذه الطبول ويشعر بقسوة الحدث والتحدّي الخَطِر الذي يواجهه، فيعلن أنه في حالة حرب كونيّة مع هذا الوباء.

و(قارعة) أيضا لأنها تَقرع القلوبَ فتصيبها بالخوف والذعر والهلع، لترجع إلى الله نادمةً، تائبةً، آسفةً، عازمةً على تصحيح مسارها.

وقد تكون (القارعةُ) من التقريع والتأنيب على ما كسبت أيدي الناس من مظالم ومفاسد ومخازٍ وفجور.

فهل يستيقظ العالم من سُباته؟ وهل تتغيَّر قلوب البشر ونفوسهم وعقولهم بسبب “كورونا”؟ هل يعود العالم إلى رشده فيضع حدَّاً للحروب والمآسي والفساد المستشري؟ وهل يعود إلى قيم الخير والصلاح؟

  إنَّ العالم ما قبل “كورونا” لن يكون كما بعده بالتأكيد، وما سيُحدثه هذا الوباء في العالم من أضرار ومن خسائر بشرية ومادية سيكون زلزالياً، وقد تمتدُّ تداعياته وأضراره لعقود طويلة، ولا أحد يعرف متى تنتهي هذه الاندفاعة المجنونة لهذا الوباء! بلى، القرآن الكريم يخبرنا سبب كلّ فساد في الأرض، يقول سبحانه وتعالى:

(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم/ 41).

     هذا الوباء هو  نتيجة من نتائج ما كسبت أيدي الناس، لكنْ ما سيذوقه العالمُ منه ومن نتائجه وآثاره على الأجساد والنفوس جميعاً هو بإرادة من الله فهو المحيي والمميت، وهو القائل(وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ). وكما نرى في هذه الأيَّام ونسمع ونشاهد ونستلص، تذوق البشرية بعض الذي عملته يداها، أي حسب تعبير المثل  العربي الشائع( على نفسها جنت براقش)! لماذا؟

   (لعلّم يرجعون) وهذه عبارة إيقاظيّة شديدة الإيقاظ، جرس إنذار على  مستوى  العالم كلّه، دعوة للبشرية بأسرها إلى (التراجع) عن الذنوب والمعاصي وظلم الآخرين والفساد في البرّ والبحر، وإلى (الاسترجاع والمراجعة) بأن تراجع الإنسانية حساباتها، وأن تعيد دراسة تعاطيها في ما بينها ومع خالقها ومع الطبيعة من حولها، وأن تكفَّ عن أعمال التخريب من التعدّي والظلم والإفساد في الأرض. أن ترجع إلى نفسها لتصحّح أخطاءَها، وأن يرجع كلُّ إنسان إلى نفسه ليصحّح أخطاءَه، وإلى مجتمعه ليكافح فساده ويُوقظه من غفلته.

    إنها دعوة لنا أيضاً لكي نعيد شريط حياتنا، نعرضه على أنفسنا قبل أن تُنشر الصحف وتجفّ الأقلام! بل هي أيضاً دعوة لـ(التراجع) بأن نستغفر الله ونسأله التوبة، معاهدينه على عدم العودة، والأهم من هذا وذاك هي دعوة البشرية لـ(الرجوع) إلى أحضان الله، وإلى أخلاق السماء وتعاليمها وأحكامها، وإلى تلك القيم الحية التي أماتتها البشرية بـ”كورونا” أفعالها السيّئة والمسيئة!

اللحظة الربّانيّة:

   دعونا -أيها الإخوة والأخوات- نتصوَّر وباء “كورونا” والخوف منه كـ(محطّةٍ إلهيّةٍ)، ونحسبُه (لحظةً ربّانيّةٍ) و(وقفةً وجدانيّةٍ روحانيّةٍ)، و(صدمةً موقظةً)، و(مشفى أخلاقياً)، و(كوابحَ) للحدّ من طغيان الإنسان على أخيه الإنسان، والدول المستكبرة على الدول المستضعفة، فكأنما هويدٌ سماويةٌ تُحدثُ هزّةً أرضيّةً تريد أن توقف من اندفاع هذا القطار البشريّ الماضي بأقصى سرعته، والخارج عن حدود سِكّتِه ليرتطمَ بكلّ شيء، ويخرّب كلّ شيء.

   ولأننا ننظر إلى الابتلاءات نظرةً إيمانيّة وقرآنيّة وعقلانيّة، فإنّنا لا نتداوى بالعقاقير وحدها، وباللقاحات وحدها، بل بما يضمن لنا سلامة الروح والمشاعر والقلوب أيضا. ولهذا أحببتُ أن أتناول موضوع كورونا والخوف منه بشيء من الإيجابية، وبالكثير من الهدوء والعقلانيّة، وببعض الروحانيّة أيضاً، مذكّراً نفسي وإخواني أنّ الموت حقّ، ويجب تذكُّره والتفكير فيه ، والوقوف عند ماورد من الأحاديث التربويّة لتزيد من جرعة المناعة عندنا. ففي الرواية عن النبي (ص):

   (وإنَّ أَكْيَسَكم أكثركم للموت ذكراً، وأحزمكم أشدكم استعداداً له، ألا وإن من علامات العقل التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والتزوُّد لسكنى القبور، والتأهُّب ليوم النشور).

ومن وصيةٍ للأمام علي (ع) لابنه الأكبر الإمام الحسن (ع

(يا بني أكثر من ذكر الموت، وذكر ما تهجم عليه وتفضي بعدالموت إليه، حتى يأتيك وقد أخذت منه حذرك وشددت له أزرك، ولا يأتيك بغتة فيبهرك

    فلا بدَّ لنا، ونحن نعاني من مخاطر وباء “كورونا” المداهم والخطير، من أن نتذكَّر الموت حتى نتمكَّن من التحديق بوجهه، ونكن على أتمّ استعداد لملاقاته، لماذا؟ هل لمجرَّد إثارة الرعب والرهبة في قلوبنا؟ أم لكي نشيع ثقافة الموت كما قد يتصور بعض من لا يعرف ماذا نريد؟

كلا. بل لأجل الفائدة في حياتنا وعلاقاتنا، فذكر الموت:

1- يُقرّب من الله أكثر.

2- يُبعد عن المعاصي والذنوب والمفاسد.

3- يُسرّع في الحساب الذاتي والمراجعة النفسيّة، عسى أن نبدّلَ السيئاتِ بالحسنات.

4- يمكّننا من التزوُّد للآخرة، فلا نأتي وسلالُنا فارغةٌ، وأيدينا من الصالحات صفراً.

5- يُقوّي إيماننا بالله القاهر لعباده بالموت، وبأنَّ لنا يوماً نلاقي فيه وجهَه الكريم.

6- يُرقّق قلوبَنا التي قست -أيامَ الابتعاد عن الله- فأصبحت كالحجارة أو هي أشدّ قسوة. ورد في الخبر عن النبي (ص) أنه قال: (إنَّ هذه القلوب لتصدأ. قيل له: وما جلاؤها يا رسولَ الله؟ قال: بقراءةِ القرآن، وذكر الموت).

وعن الإمام جعفر الصادق (ع): (ذكر الموت يُـميت الشهوات في النفس، ويقطع منابت الغفلة، ويُقوّي القلب بمواعد الله، ويرق الطبع، ويكسر أعلام الهوى، ويطفي نار الحرص، ويحقر الدنيا، وهو معنى ما قال النبي (ص): فكر ساعة خير من عبادة سنة).

صفحة جديدة مع الله:

 ختاماً، يحق لنا ان نتساءل جميعا ومن موقع الإحساس العالي بالمسؤولية: أما آن لنا – ونحن نعيش الموتَ كمشهدٍ يوميّ- أن نفتح صفحةً جديدة مع الله تبارك وتعالى؟ أليست “كورونا” إحدى مذكّراتنا بالموت، وإحدى موقظاتنا من الغفلة، وداعيتنا للاستعداد للآخرة.

قيل لأمير المؤمنين (ع): ما الاستعداد للموت؟ قال: أداء الفرائض، واجتناب المحارم، والاشتمال على المكارم، ثمَّ لا يبالي أوقعَ على الموت أم وقع الموت عليه… والله!

   إذن إذا أراد الإنسان أن يستعدَّ للآخرة، فعليه بهذا المثلَّث المبارك: أداء الفرائض، واجتناب المحارم، واشتمال المآثر والمكارم.

فمن الطبيعي أن زاد الآخرة هو من العبادات والمعنويات والأعمال الصالحات على اختلاف أشكالها، ويبقى -أحبَّتنا وإخوتنا في الله- خير الزاد- في هذه المحنة  وغيرها- التقوى: (وَتَزَوَّدُوا فإنَّ خَيْرَ الزَّاد التَّقْوَى) (البقرة/ 197). وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

Contact Us

We're not around right now. But you can send us an email and we'll get back to you, asap.

Not readable? Change text. captcha txt

Start typing and press Enter to search