منْ هم أولو الألباب؟

منْ هم أولو الألباب؟

٢٨ كانون الثاني ٢٠٢٢

 

مقاربةٌ للخصائص والأدوار

————————————————

يقول تبارك وتعالى:

(قلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ. لهم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ.والَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَاد الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ) ( الزمر/15-18).

 

من هم الخاسرون؟

——————

الخاسرون حقًّا هم الذين خسروا أنفسَهم فلم يضعوها حيثما أراد الله أن توضع، يقول السيد المسيح (ع) (( ما جدوى أن تربح العالم وتخسر نفسك))؟! خسارةُ النفس أفدح الخسارات على الاطلاق فليس هناك خسارة مهما عظمت تعدلها.

و(خسروا أهليهم) أعزّ الناس بعد انفسهم، وإذا كنّا في الدنيا نتألم لأي خسارة تلحق بنا، ولأدنى ضرر يصيب أهلينا، فكيف بنا إذا خسرناهم خسارة نهائيّة فلم نجتمع بهم في الدار الآخرة لأنّنا قد نكون على مفترق طريق، ًّّّ أي قديكون لكلًّ منا طريقه المختلفة عن الآخر. فقد يكون بعضنا في الجنة وبعضنا في النار لاسمح الله، وهذا يعني أننا قد لا نلتقي أبدًا، ألا ذلك حقًّا هو الخسران الواضح الذي لا لبس فيه،  والخسارة الكبرى التي لا يمكن تعويضها.

هذا العذاب الموصوف في هذا النصّ القرآني يخوِّف اللّه به عباده؛ ليحْذَروه. (يا عباد فاتقون) بامتثال أوامري واجتناب معاصيَّ، من أجل أن تتفادوا هذه الخسارة الجسيمة المركّبة وهي خسارة الأنفس والأهل معا. لقد جعل سبحانه وتعالى ما أعده لأهل الشقاء من العذاب داعيا يدعو عباده إلى التقوى، وزاجراً عما يوجب العذاب. فسبحان من رحم عباده في كل شيء، وسهّل لهم الطرق الموصلة إليه، وحثهم على سلوكها، ورغبتهم بكل مرغِّب تشتاق له النفوس، وتطمئن له القلوب، وحذرهم من العمل لغيره غاية التحذير، وذكر لهم الأسباب الزاجرة لتركه..

ومن الطبيعي، فإن حديث القرآن عن الخسارة لا يقف عند هذه الآية من آيات الخسارة، فهي كثيرة يجب أن يُنظر اليها نظرة موضوعيّة متكاملة، حتى إنّ سورة (العصر) تصف الناس عموماً بالخاسرين، عدا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.

 

من هم الرابحون؟

——————

هناك في هذه الآيات من (سورة الزُمر) تقابلٌ بين (الخاسرين) الذين مرّت الإشارة إليهم، وبين (الرابحين) الذين لم يصفهم القرآن وصفاً صريحا بالرابحين، بل قال إن (البشرى) لهم، مما يُفهم منه ُبشرى النجاة والفوز والربح الكبير. وبوصفه لهم على أنهم أصحاب العقول الراجحة (أولو الألباب) يمكن اعتبار الرابحين هم الواعون لحقيقة وجودهم ودورهم ومسؤولياتهم في هذه الحياة. وبهذا يكون أولو الألباب هم الذين يربحون أنفسهم وأهليهم، أي أصحاب الربح المزدوج الذي ينطوي على إنقاذ الذات المخلصة، ومن تحرص الذات الوفيّة على العناية بهم وتجنيبهم الويلات.

 

 من هم أولو الألباب؟

——————

من خلال هذا المدخل المقارن المهم، يمكننا أن نتساءل عن صفات وخصائص أولي الألباب

فمن هم أولو الألباب؟ و ماهي صفاتهم؟ و ما دورهم في الحياة؟ و ماهو جزاؤهم الدنيويّ والأخرويّ؟ عسى أن نكون منهم إن شاء الله،  وأن نعتمد هذه الصفات مقياساً وهدفاً نستعين به على اللحاق بهم  والوصول الى مصافهم و لو بإدراك بعض صفاتهم العظيمة:

 

أولاً: أصحاب العقول السليمة:

——————

أولو الألباب هم أهل العقول السليمة والفهم الصحيح  الذين يستغلون نعمة العقل للتفكر  في الخلق والنظر في أنفسهم وفي خلق السماوات والأرض ، فيستشعرون في عقولهم وقلوبهم الإيمان والتعظيم للخالق،  وهم الذين يتدبرون  كلام الخالق في القرآن الكريم فلا يمرون عليه مرور الكرام دون أن يعوا ما يقرأون، بل يتفكرون ويتأملون فيه، ينتفعون بها, ويعملون به، يأخذونه بسبب تفكرهم وإيمانهم على محمل الجد والتصديق والاعتقاد ، (عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم ) كما يعبر أمير المؤمنين علي عليه السلام.

وفي الحقيقة، إن الإنسان كلّما كَمُل عقلُه ونضج، وتعمّق في ادراكه لهذا الوجود ، أدرك أنّ له خالقا ومدبّراً حكيما، فتراه يقرّ مذعنا، ويؤمن متواضعا، ويسجد خاشعا، ويذكُر مسبّحا جلالَ وجمال وعظمة الله تعالى. وذلك هو قول الحق سبحانه (وليذكّر أولو الألباب) (إبراهيم/52) فقد يَذهل غيرُهم عن عجائب الكون وبدائع الطبيعة ودقّة القوانين والأنظمة الكونية، منصرفا الى لهوه وانشغاله ومآربه، أما هم فقد احتكموا الى عقولهم فأرشدتهم الى الله و الى ما فيه خير الدنيا والآخرة.

إنهم كما صفهم القرآن الكريم يذكرون الله في كلِّ وقت وعلى كل حال ( قياما وقعودا وعلى جنوبهم.يتفكرون فى خلق الله “ربنا ما خلقت هذا باطلًا سبحانك فقنا عذاب النار“

هم الذين آمنوا بالله وبرسله وكتبه لا يفرّقون بين أحد من رسله، ويدعون ربَّّهم أن يقيهم عذاب النار ويكفّر عنهم سيئاتهم ويدخلهم الجنة عرّفها لهم. وما إقرارُ العقلاء بهادفيّة الكون بكل شعبه ومفرداته ومرفقاته إلاّ دليل على عرفانهم بالله الذي هندس الانسان وصمّم الكون وفق نظام دقيق لا يختلّ ولا يتخلّف ولا يُجارى، ولذلك فهم لا يُعربون عن مجرد إعجابهم بصنعة الصانع، بل بالحكمة الكامنة فيه والهدف من ورائه، وينتفعون من ذلك في إثراء حياتهم بالإيمان وإثراء الحياة بابداعاتهم المستوحاة -في كثير من الأحيان- من إبداعات كونيّة تأتي نتيجة التأمّل والتفكّر وإمعان النظر.

 

يقول عز وجل :

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ  الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ  رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ  رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ.

 

وورد في الروايات أن رسول الله (ص)بعد أن أنزلت عليه هذه الآيات الكريمات (( سجد فبكى حتى بلّ الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى، حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح. قال: يا رسول الله، ما يبكيك وقد غفر الله لك ذنبك ما تقدم وما تأخر؟ فقال: ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي وقد أُنزل علي في هذه الليلة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. ثم قال ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها)). ( عن الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ناصر مكارم الشيرازي  في ذيل تفسير هذه الآيات، ج 3 ص 46 عن تفسير الدر المنثور، ج 2، ص 111 وتفسير أبي الفتوح الرازي في ذيل هذه الآيات )

 

فحين ينظر الانسان متأملاً في هذا الكون الهائل المدهش، في أسراره وقوانينه ونظمه وكواكبه ومداراته …. ودقة صنعته، يدرك أن وراء هذا الكون خالقاً منظّما عليما حكيما.. فيؤمن بالله سبحانه وتعالى، بل إن تأمله وتفكّره وسيلةٌ من وسائل زيادة إيمانه، وهذا الذي نفهمه من أن العلماء أكثر الناس خشية وخشوعا لله، لأنهم سواء أكانوا في مختبراتهم العلميّة، أم من وراء أجهزتهم الفلكيّة، أو من خلال تشريحاتهم العضويّة، أم عبر تنقيباتهم الأثريّة، أم نتيجة دراساتهم وبحوثهم الفكريّة، أم من مجرد النظر الى آيات الكون وجمالياته وإبداعاته، فإنهم لامحالة سيصلون الى حقيقة الحقائق وهي أن لهذا الكون خالقا ومدبّرا، ومهيمنا لا مهيمنَ على الوجود سواه. ٌ يقول تعالى (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن له أنه الحق) (فصلت/53).

إذن التفكّر في خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والتفكّر في آيات الله وفي خلق الله هو بحد ذاته عبادة ثوابها كبير تزيد المؤمن ايمانا وخشية لله وتنقله الى درجة من درجات أولي الألباب.

ونشكر الله سبحانه وتعالى أننا نعيش في عصر العلم والتكنولوجيا والمعلومات، عصرة الصورة الحيّة، بحيث نستطيع  متابعة الجديد من إنجازات علم الفلك والعلوم الأخرى في الكشف عن أسرار كونيّة  مذهلة تتيح لنا الاطلاع البصريّ على آيات السماوات والأرض ودلائل العظمة الإلهيّة من خلال مشاهدة أفلام وثائقية عن هذا الكون وعن فضائه الشاسع الهائل، وكواكبه وقوانينه والنظم الدقيقة التي يسير عليها…

ونحن نحث المؤ٬منين على مشاهدة هذه الأفلام الوثائقية، وحين يطّلع الانسانُ على عجائب هذا الكون ،يرى، على الرغم من تعدد القوانين  المودعة والمضمرة فيه، أن نظاما توحيديا عامّا مشتركا يحكمه، أي إن ثمة قانوناً واحداً كبيراً يهيمن عليه، من أقصاه الى أقصاه وهذا أكبر دلائل الوحدانية، يقول الشاعر

وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ ……. تدلُّ على أنه الواحدُ

 

،ويُدرك المتأمّلُ في معرض الكون والطبيعة والانسان انه لا بد لكل هذا الكون بكل كائناته من صانع، وأن الصانع واحد وهو الذي  يمسكه  ويمنعه من الانهيار . يقول تعالى ( إنّ الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليماً غفورا) (فاطر/41)، وهكذا فلكي ندرك عظمة الله ومن هو الله عزّ وجلّ علينا ان نتفكر في خلق الله القائل: ( صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون )((النمل/88) (بديعُُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ وَإِذَا قَضَىٰٓ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ) (البقرة/117)

 

سُئل أعرابي عن دليل وجود الله، فقال :

((البعرَة تدل على البعير، والأثرُ يدل على المسير .. فسماءٌ ذاتُ أبراج، وأرضٌ ذاتُ فجاج، وبحارٌ ذاتُ أمواج .. ألا يدل ذلك على اللطيف الخبير !!))

 

و كان هذا الأعرابي – بحكم فطرته السليمة- قد استعمل واحدة من القواعد العقلية الثابتة للاستدلال على وجود الله سبحانه، وهي الاستدلال بالآثار على مؤثراتها وبالأسباب على مسبباتها. \ولولا هذه القاعدة لما قامت كل مراكز الدراسات العلمية في العالم: دراسات الفضاء وعلوم الفلك والجيولوجيا وعلوم الطب …، كل هذه الدراسات قائمة على منطقيّة ربط النتائج بالمقدمات، وكشف الأسباب والمسببات والقوانين الموضوعة هنا وهناك..  ذلك أنّ لكل شي  قانونا يحكمه، ولذا ترى أنّ كل مراكز الأبحاث ترجع الى هذه القاعدة الأساسيّة(قانون العلّية).. فليس هناك شيء في الكون الاّ وله قانون…وتمام الصنعة يدل على وجود صانع متقن عظيم خالق بديع السماوات والأرض، وقد كشف لنا عن نفسه وأعلمنا بوجوده..ونزيدكم بأن الامام الحسين (ع) يرى أننا لسنا بحاجة لتقصّي الاثار حتى نتعرّف على الله الذي دلّ على ذاته بذاته، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته، وجلّ عن ملائمة كيفياته، فيقول في (دعاء عرفة) ((كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر اليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك، متى غبت حتى تحتاج الى دليل يدلّ عليك، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل اليك)) (بحار الأنوار/ المجلسي. ج64.ص142)

القاعدة التي نخلص اليها هنا أنّ كلّ ما في الكون مادّة للدرس والبحث والنظر والتأمّل.

 

ثالثا: يصلون ما أمر الله به أن يوصل و يخافون من عذاب الله:

——————

 

وصفة أولي الألباب هنا انهم : يصلون ما أمر الله به أن يوصل من صلة رحم وعلائق إنسانية مع إخوانهم وجيرانهم، ويخشون ربهم حق الخشية، لكنهم يرجون لله وقارا، ويعرفونه حقّ العرفان فتأخذهم الهيبة لجلاله، فهم من خشيته مشفقون ولجلال عظمته منصاعون، وهم يعملون الصالحات – كما يقول أمير المؤمنين(ع)- وهم منها على وجل!

يقول تعالى:

(وٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوٓءَ ٱلْحِسَابِ)(الرعد/21).

 

إنهم يخافون سوء الحساب، ويرجون ثواب الله ويتوجهون الى الله دائما بالدعاء، يدعونه رغبا ورهبا، هم يرغبون بجنة الله ولكن يخافون عذاب الله ، ان لدى هؤلاء خشوعا وخشية كبيرين، مثلما لديهم أملٌ ورجاء عميقان، يقول تعالى في وصف عباد الرحمان  :

وَ(ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ۖ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) [الفرقان:66]،

وورد في الرواية عن الامام الصادق (ع) ((ليس من عبدٍ مؤمن إلاّ وفي قلبِه نوران: (نورُ خِيفةٍ)و( نورُ رجاء) لو وُزن هذا لم يزد على هذا، ولو وزن هذا لم يزد على هذا))(ميزان الحكمة. محمد الريشهري. ج1.ص826)

 

رابعاهم حَفَظةٌ للمواثيق والعهود:

——————

 

وهم – أي أولو الألباب- لا ينقضون الميثاق، وموثق الله هو ما أخذه على جميع البشر أن يعبدوه ويوحدوه لايشركون به شيئا. فهم يعبدون الله ويوحّدوه ويسلمون أمرهم اليه ويعرفون انهم لله وانهم اليه راجعون …

 

قال الإمام علي ( عليه السلام ) (( غاية الإسلام التسليم، وغاية التسليم الفوز بدار النعيم))(ميزان الحكمة/ج2. ص1343).

 

 

 خامسا: الصابرون ابتغاءَ رضوان اللّه:

——————

وصفة اولي الألباب الأخرى : انهم يصبرون على البلاء ابتغاء وجه ربهم. ويقيمون الصلاة ويحافظون عليها، وينفقون في سبيل الله سرًا وعلانية. ويقابلون السيئة بالحسنة. وهذا يعني أنهم أخلاقيون بامتياز، وإنسانيون على درجة عالية من الانسانيّة، وربّانيون بلا مزايدة.

 

(وٱلَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِٱلْحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمْ عُقْبَى ٱلدَّارِ)(الرعد/22)

 

يصبرون على الطاعة، ويصبرون على البلاء، ويصبرون عن المعصية، ويصبرون في المواقف التي تتطلّب جرأة وشجاعة وثباتا، ابتغاء رضا لله، وابتغاء فضله، وجنته.. ليس رياءً ولا سمعةً ولا لأي مطمح دنيوي.. يخلصون لله سبحانه نياتهم .

يصبرون ابتغاءَ وجه الله : أي يعملون العمل خالصاً مخلصاً  لله تعالى ويقصدون رضاه والتقرّب اليه، بحيث تكون نيّاتهم متوجّهةً دائماً إلى الله، فلا تطلب إلّا رضاه ووجهه الكريم، حبّاً به، وطمعاً في فضله وإحسانه. و الإخلاص لله هو غاية الدين، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: “الإخلاص غاية الدين، وهو أفضل العبادات))(غرر الحكم/727)، بل هو روح العبودية لله وجوهرها، كما أخبر عن ذلك إمامنا الصادق عليه السلام ((أفضل العبادة الإخلاص))(ميزان الحكمة/ج2.ص1801).

 

 

سادساً: إتباع أحسن الأقوال

——————

ومن صفة أصحاب العقول المتوازنة (أولو الألباب) أنهم : يستمعون القول فيتبعون أحسنه ،فهم يعتبرون ويتعلمون من سنن التاريخ، واحداث الماضي وقصص الصالحين والأنبياء، ويتعضون من تجاربهم وتجارب غيرهم، والحكمةُ ضالتهم أينما وجدوها أخذوها وعملوا بها.

ولقد قصّ الله عزّوجلّ علينا في القرآن الكريم أحسن القصص بما يثبّت به قلوبنا، وقصّ علينا ما فيه غاية العبرة وآيات لأولي الألباب من: دروس التاريخ و الحياة ,وما فيه القدوة الحسنة والنموذج الأمثل لمن بعدهم، وما فيه النجاة من العقوبات والفوز بالخيرات، وما فيه احسن العواقب ويرفع الدرجات، قال تعالى( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).((يوسف/111)

((والاعتبار(التقاط العبرة) هو الانتقال من حالة مشاهدة، أو حالة ماضية ذات عقوبة ونكال، الى حالة حسنة محمودة بالشرع والعقل باجتناب أسباب العقوبة والنكال، أو الانتقال من سيرة الصالحين وما أكرمهم اللّه به من خير العمل، واقتفاء آثارهم، أ و التفكير في طبائع المخلوقات ومعرفة أسرارها وصفاتها والحكمة منها لعبادة خالقها وتخصيصه بالتوحيد والطاعة تبارك وتعالى.))

 

واولو الألباب – بما امتازوا به من تحكيم وترجيح عقولهم- يعتبرون أيضا من تجارب الناس والأمم، فالمؤمن كيّس فطنٌ ذكي، والذكي كما يقول أحدهم يتعلّم من أخطاء الآخرين ، فليس ذكاءً أن تتعلم من أخطائك فقط.الذكاء أن تتعلم من أخطاء الآخرين، وتوفر على نفسك ثمن الخطأ! الانسان عادي الذكاء فقط هو الذي يتعلم من أخطائه ، الامام علي (ع) يقول : ((العقل حفظ التجارب)). (نهج البلاغة/ الحكم القصار). صاحب العقل الخصب الواسع يحفظ التجارب ويتعلم الدروس والحكم من تجاربه وتجارب الآخرين، امّا الغبي فهو الذي لا يتعلم شيئا لا من تجاربه ولا من تجارب الآخرين بل يتعلم الأخرون من تجاربه.

 

قال تعالى: أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (24/ الرعد).

 

وجزاء أولي الألباب الذين يتمتعون بكلّ هذه الخصائص والمواصفات أن اللّه لا يُضيع أيمانهم،  ولا أعمالهم الصالحة، بل إنّ لهم عقبى الدار ، يدخلون جنات عدن ليس بمفردهم، بل يجمعهم الله هناك مع كلّ من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، وتدخل عليهم الملائكة وترحب بهم وتستقبلهم بتحية السلام وبحياة السلام الأبدية، وذلك هو الفوز العظيم والربح الكريم.

 

أدوارُ أولي الألباب في الحياة:

——————

الحياة بدون أولي الألباب من ذوي العقول النيّرة، فقيرةٌ فقراً مُدقعا، هي بدونهم عُرضة ل(فوضى) وعبثيّةٍ ضاربة في كل مكان، هي متواليات من (فتنٍ) شعواء ما أن تنطفئ واحدة حتى تشتعل عشر أخريات يتناسلن منها ويخرجن من عباءتها، هي(حروب) طاحنة ضروس تأكل الأخضر واليابس، هي (رتابة) مملّة خالية من أي إبداع، هي (جُفاء) و(غثاء) كغثاء السيل لا تنفع في شيء، وهي (غابة) إنسانيّة لا تقارن بأفظع غابات الوحوش، ذلك أن العقل إذا توارى الى الخلف تقدمت كل الشرور الى الواجهة، وأولها الجهل والأميّة والتخلّف وسائر الأوبئة الفتّاكة.

على ذلك يمكن أن نستقرئ أو نقرأ بعض عناوين الأدوار التي يقوم بها أولو الألباب في حياتنا لنرى ماذا يعني تركيز القرآن على هذا الصنف الإنساني الراقي والمميّز:

1-أولو الألباب هم (حملةُ المشعل) هم التنويريون، هم أصحاب الاضاءات الفكرية والثقافيّة والتوعوية، فمن رشحات ونفحات عقولهم نقتات على هذا الزاد الفكري والثقافي والتربويّ والمعرفي الذي يوسع من آفاق حياتنا، ويجعل فهمنا للحياة أغنى وأكمل وأفضل.

2- هم أصحاب المواقف الحكيمة، هم عقلاءُ القوم الذين يُلتجأ إليهم في المهمّات والملمّات، لأنهم لا يتعاملون بغرائزهم وعواطفهم السطحيّة وانتماءاتهم الضيّقة، بل بأرقى ما وهبهم الله من هبات وهو العقل، ولذلك هم حكماء في فضّ المنازعات، وتسوية الخلافات وإزالة التناقضات، ومعالجة المغالطات.

3-هم اهل الاختيارات الصائبة السليمة الحميدة، سواء في بنائهم لمجتمعهم الصغير (الأسرة) ام في مساهماتهم في بناء مجتمعهم الكبير بكلّ ما يتطلّبه البناء من تعاون، ومن مواقع خدميّة ترسي معالم الحاضر وتستشرف آفاق المستقبل. هم اثبت الناس رأيا لا يغرهم الناس من أنفسهم ولا تغرّهم الدنيا بتشويقاتها، على حدّ تعبير الإمام علي (ع).

4-هم إصلاحيون، بما يمتلكونه من أدوات إصلاح وتصحيح وتغيير و آليات معالجة لما فسد، وأهمها الرزانة والعقل والاعتدال، وتغليب العام على الخاصّ، والموضوعيّة على الأنانيّة.

5- هم حَفظةُ الخطّ القيمي الأصيل بما ينطوي عليه من محاسن وفضائل ومكارم الأخلاق، إنهم لا يتعاملون بالعقل المجرّد فقط، بل بالروح الانسانيّة التي تشيع المحبّة والانفتاح والتسامح والتواضع

6- وهم -الى هذا وذاك- الأدلاءُ على اللّه، بما تمسّكوا به من روح الالتزام والثبات على المبدأ، بل والتضحية من أجل القيم العليا.

من ذلك كلّه، هم لاعبون أساسيون في تأثيث وهندسة الحياة وفق معاني الجمال والعقلانيّة والوسطيّة والتبادل المعرفيّ، والترشيد الديني، والاغناء الثقافي، ولولاهم لكانت جغرافية الحياة الانسانيّة أضيق نطاقا وأكثر اختناقا.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

 

Contact Us

We're not around right now. But you can send us an email and we'll get back to you, asap.

Not readable? Change text. captcha txt

Start typing and press Enter to search